بدأت العمل بعد أيام براتب شهري لا يتجاوز الألف درهم، اعتبرتها بداية وخطوة أولى في درب طويل تسأل في كل محطاته عن الخبرة.
عملت بالقسم الثقافي أكتب مقالات عن الفن والأدب، أنجز التغطيات المتعلقة بالأحداث الثقافية بالدار البيضاء، أجري الحوارات مع أهل الفن والأدب والثقافة.
كنت سعيدا جدا بالعمل رغم الراتب الهزيل، ساعدني في ذلك معرفتي الشخصية بعدد من الأسماء المسرحية من رفاق الأمس القريب. كنت أعرف ساحة الصيد جيدا كما يقال، ففنانو الدار البيضاء وبعض من مثقفيها لهم مقاه بعينها يجتمعون بها، أبرزها “الأميرية” لابرانسيير، لاكوميدي، لالوج، بالي دور، الخضرا والحمرا، وهما مقهيان أحدهما بواجهة خضراء والآخر بأخرى حمراء.
كنت كالذئب الجائع أحوم مساء بأرصفة المدينة أنتقل من مقهى لآخر أتحين الفرص وألتقط الأخبار.
ألقي التحية على هذا وذاك، أغير الأماكن والوجوه، أسأل عن الجديد والقديم.
كان مقهاي المفضل، الأميرية، هناك زرعت ذكريات ما زلت أرعاها إلى اليوم، أو على الأقل أحاول، هناك عرفت الناس قبل الأسماء، سمعت القصص ما يروى منها وما لا يروى، هناك كسرت وهم الشاشة، واقتربت من بؤس الفن والفنانين.
هناك التقيت من جديد سعيد السهلي، صديق جمعني به الجوار في الحي القديم (0-4) زيرو كاط.
كان من الوجوه المعروفة للفنانين باختلاف مشاربهم، كان يرافق المجموعات المسرحية والموسيقية في جولاتهم الفنية.
وأذكر ذاك المساء، ألقيت عليه التحية فرد بابتسامته العريضة من تحت شارب كث لا يخفي من صفائها شيئا، رفع يده مناديا وقد عرفت أنه يريد أن يعرفني بشخص يتقاسم معه طاولة في ذاك الركن من “لبرانسيير”، كنت أعرف لازمته، يقدمني ك”ولد الدرب” الصحافي.
وهذا لقب كان يثقل كاهلي ساعتها، كنت أستلذه لكن بمرارة المسؤولية.
قبل أن أصل إليه لمحت جليسه أو جليسته فكانت امرأة في عقدها الخامس تخفي جمالا قديما استوطن هذه الملامح.
جمال أعرفه وها أنذا أتصفح ذاكرة الصور كي أرفع الحرج، انتفض سعيد واقفا مبادرا بالمصافحة والكلام:
-هذا سعيد ولد دربنا، صحافي.
مددت يدي للسيدة أصافحها بابتسامة لترد بنصف ابتسامة أدركت من خلالها أنني لست المقصود، وعرفت أنها فنانة، فوحدهم الفنانون في هذا البلد من يضحكون أمام الكاميرات وعلى المسارح بينما يبكون دما في ظلمة النسيان.
-هذه سكينة، جيل جيلالة.
رسمتُ ذات الابتسامة وأنا أبدي سعادتي بلقائها، بينما لم تتغير ملامحها، أخذت نفسا أخيرا من عمر سيجارتها الرخيصة قبل أن تنفث مع الدخان ضيقا وحنقا بدا مزمنا.
أصر سعيد على انضمامي إليهما ففهمت غايته.
-هذه سكينة أختي، فنانة من الزمن الجميل إذا كنت تريد كتابة شيء في الجريدة عن ذلك الزمن.
ما كنت لأفوت هذه الفرصة، فتراقصت أمامي الأفكار تغريني بالغوص في بحرها، لكن قبل أن أنطق بحرف صفعتني سكينة بسؤال لم يكن لي ولكن كنت المقصود به، نظرت إلى سعيد وقالت:
ـوهل يستطيع؟!
قالتها بتعال واستنكار يخفيان تحديا يليق بتلك البدايات.
فهمت أن قصتها ستكون ذات شجون، وفهمت منها لاحقا أن لا أحد من الصحافيين أقدم على سرد قصتها كما ترويها بلسانها، خوفا من البعض ومحاباة للبعض.
كنا على أعتاب شهر رمضان الأبرك، فاقترحت على سكينة أن ننشر سيرتها على شكل حوارات على امتداد أيام الشهر الفضيل.
رحبت بالفكرة وكانت سعيدة جدا، فقد كانت تعيش وضعا مأساويا امتزج فيه الفقر والحاجة ومرض الزوج المزمن بالجحود والتناسي، هي الآن فنانة مع وقف التنفيذ، صوت اعتزل الغناء ليحترف النواح.
مقتطفات من سيرة
(صورتان من زمنين)
*سعيد بلفقير -كاتب صحفي
*