عبد الرزاق بوتمزار

ح. 96

مُكالَمة من نجم متواضع جدا..

 

حدَثٌ آخرُ طبَعَ بدايات اشتغالي على زاوية “على الأثير”.. ما إن شرعتُ في تَناوُل فطوري، ذات يومِ أحد، حتى حوّلتْ لي موظفة الاستقبال مُكالمة خارجية.

جاءني الصّوت من الجهة الثانية للخط قوياً، إنما مُتردّدا ومُتلعثماً. كان مُنشّطَ برنامج في إذاعة خاصة، هجَم بلا مُقدّمات:
-وْاللهْ إلى حْرامْ عْليكْ، أصاحْبي، أشْ درتْ ليكمْ!؟.. لماذا لا تذكر عني في زاويتك إلا الأمور “الخايْبة” ولا تأتي، أبداً، على ذكر اسمي حين أقدّم حلقة في المُستوى!؟ لقد كنتُ أنا صاحبَ المأثورة التي افتتحتَ بها مقالتك؛ لكنك نسبتَها إلى “مُنشّطٍ ما”.. لماذا لا تذكُر في مقالك أنّني كنتُ في الشّبيبة (الفلانية) وأنّني كنتُ…

قاطعتُه، مُحاولاً أن أشرح له أنّني، مثلَه تماماً، ما أدّيتُ غيرَ عملي. لكنه تابع، بانطلاقه وعنفوانه الجامحَيْن:
-أريد فقط أن أعرف لماذا كلما أراد أحدهم أن يصير مشهورا كَتبَ عنيّ؟!..

كان المُنشّط واثقاً من نفسه كثيرا وهو ينطق بالجُملة. (يا لَلتّواضُع!).. قلتُ لنفسي، قبل أن أشرح له، وأنا أرفع صوتي ما أمكن حتى أجعله يسمع بوضوح:
-اسمعْني، رجاءً، لستُ، على كلّ حال، من النّوع الذي يبحث عن أيّ شهرة، خُصوصاً إذا كان لأمثالك فضلٌ فيها!..
تَوقـَّفَ عن الكلام، أخيراً، حين سمع ما قلتُ. تعثّرتِ الكلماتُ في فمه، فكانت فرصتي الأولى، منذ بداية المُحادَثة، كي أتكلم ويستمع هو. ويبدو أنه سمع ما أعاده من انطلاقته الجامحة. ثمّ بدأتْ رُدودُه تلين. انتهينا إلى لعبة “السّين والجيم”؛ سألتُه:
-قل لي، أولاً، هل أفطرْتَ؟ أنتَ لم تُمْهلني حتى لأنتهي من بلع وجبتي البسيطة.
أجاب:
-واللهِ ما أفطرتُ. لقد قطعْتَ شهيتي بمقالك المْعدّسْ هذا!
قالها وهو يطلق ضحكته المُجلجلة.
-واخّا أسيدي، هكذا نحن متعادلان.. قل لي الآن، هل في ما قرأتَ في المقال الذي تقول إنه أمامك شيءٌ لم يَرِدْ في حلقة برنامجك؟
-لا، صحيحٌ أنّ كلّ ما كتبتَ قيل في الحلقة؛ إنما أنا أقول، وقلتُ دوماً، كلاما جميلا لا يجد له أبداً مكانا في ما تكتبه عن برنامجي.
-أرجوك، اسمعني قليلا، هل تحبّ أنت أنْ يتدخّل شخصٌ في عملك؟ أن يُمليَ عليك ما يجب تناوُله وما لا يجب مُطارَحته أو مُقارَبته؟
-طبعاً لا، إنّما يجب كتابة كلّ ما يُقال وليس فقط…
قاطعتُه:
-يا أخي، أنتَ تقول ما تريد، وأنا أكتب من الزّاوية التي أريد، ما دمتُ لم أضف أو أنقص ممّا قلتَ. أين المشكل، إذن؟ ثمّ إنه لا يُمكِنني سماعُ كلّ ما تقولُ أو يقول غيرُك في كل هذه البرامج التي تذاع هنا وهناك ولا تَذكّرُ جميع حيثياته وضبط تفاصيله بالأسماء والتواريخ؛ لذلك لا بدّ أن يقع خلط أو سهو.. أنتَ لا تعرف الظروف التي أشتغل فيها وإلا كُنتَ قدّرتَ أيَّ تقصير أو نسيان منّي. وعموماً، لقد سعدتُ باتّصالك…

استطعتُ، أخيرا، التخلص من النّجم “المتواضع”. شرحتُ لعشيرة المُصحّحين، الذين كانوا يُتابعون باستغراب مضمونَ تلك المُكالَمة المُتشنّجة، ما حدَثَ ونحن نستعدّ، ضاحكين، ليوم آخر من عملنا “الحقيقيّ”، الذي سيبدأ بعد لحظات.
(أشْ بينّي وبينْ شي حْدّ نكتبْ عليهْ كاعْ!؟ واشْ هادُو كايْعرفو غيرْ جيبْ يا فـْمّ وْقُلْ؛ وحين تُؤدّي أنت واجبَك قد لا يعجب كثيرين منهم ما تخُط في هذه الزّاوية، نصيبك الأسبوعي من بياض الصّفحات؟!).. تساءلتُ، وأنا ألوم النفس، الأمّارة بالكتابة؛ وانكببتُ وانكبّوا على ما كتب الآخرون، تدقيقا وتنقيحا وغربلة..

كانت للحديث مع ذلك المُنشّط تبعاتُه، المعلنةُ والخفية، لاحقاً.. حين لا نستطيع فرض وصاية أبوية، ساكنة في أعماقِنا، نحاول إيجادَ كوة من خلالها نُمرّر رسائلَ مُبطـَّنة إلى حدود قد تكتسي معها طابعاً شخصياً ضيّقاً، ولو على حساب عواملَ وفاعلين آخرين لا يد لهم في كلّ ما يقع. سمعتُ، في حلقات لاحقة من البرنامج، نماذجَ من هذه الرّسائل، المُبطـَّن منها والصّريح، مُوجَّهة لشخصي المُتواضع (الباحث عن الشّهرة!).. كم يُؤسِف أنّ ما يقال شفهيا حول قيم الاختلاف والتعدّد ورحابة الصّدور تجاه سهام النقد والرّأي الآخر يصيرُ مُجرّدَ “بارُولـّي” وقد دنتِ كلماتُ النقد المُزعجة من الذات المُتضخّمة، العزيزةِ على صاحبها إلى حدود قد لا تُتصوَّر.

قلْ أيّها الأثير وقلْ للأثير أنْ يقول: أنا هناك في الاستماع، دائماً عند مُنعرَج إحدى الموجات، مُتربّصاً فقط بما يصنع مَجدي الشّخصي عبر خربشة حكايةٍ ما، قصّة ما، خبرٍ أو رأي، على درب هواية/ غوايةٍ ما للحِبر حيلةٌ للنجاة من قبضة سحرِها وأسْرِها، إنما ليس لحُبّ شُهرة أو مجدٍ زائف، لو تدري أيها “النجمُ” غير المتواضع.

كنتُ قد حفظتُ، بتوالي أسابيع انتظاري على موجاتِ الأثير، مواقيتَ البرامج الإذاعية علّ أصواتَها تُخفّف وحدة عميقة، لو تدْرين ويدْرُون. لم أكن أختار نقط ضعف “أهاجم” منها، بل هي رؤية وقناعة. لم أكن أكتب ما لا أحسّ به وأستوعبه. من زاوية نظري الضيّقة، أو المُتواضعة حتى، كنتُ أنتصر لأفكار وتوجّهات وأمرّغ أخرى في وحل المِداد وبين خبايا السّطور. أكتُبُ عن أنَا في قصص الآخرين؛ عن قصص الآخرين في أنَا؛ ولتنتظرْ قصّتي، كما هو حالها منذ أزل، فرصةً لاحقة.
سليطاً كان قلمي حيناً، ليّناً أحياناً؛ يتوقف أمرُ الفصل بين الوصفين على زاوية النظر والتناول والقناعة والمبادئ وهلمّ تراكماتِ ما يقرب من عشرين عاماً من الحضور في ساحة الكلمات بلا مجْد أو لهاث خلفه، لو يعلم “نجومُ” الأزمنة المُغبرّة، المُستجدّون..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *