مساء الأربعاء 18 دجنبر، انتشر عبر شبكات التواصل الاجتماعي “خبر” حول إعداد وجاهزية مشروع تقليص عدد جهات المملكة من 12 إلى 9.
سرعة الانتشار من جهة، وسرعة تفاعل الإعلام الحديث مع الخبر، جعلتا الوزارة المعنية تخرج عن صمتها وتكذب الإشاعة، ليس ببيان مختوم، ولكن وفق تقنية “أفاد مصدر مسؤول” المتعارف عليها في الوسط المهني.
ليبقى السؤال العالق والحارق: لماذا تفاعل المغاربة مع هذا الخبر بنشره على نطاق واسع؟ ففي أقل من ساعة، توصلت به عشر مرات من مصادر مختلفة.
هل يعود الأمر إلى تنظيم الدورة الثانية للجهوية المتقدمة بطنجة؟ أم لأن إعادة النظر في التقسيم من شأنه أن يمس بمصالح ومواقع عدد من “النخب والأعيان” جهوياً، محلياً، وحتى وطنياً، وبالتالي كان الخبر بمثابة زلزال لبعضهم؟ أم أن الشارع المغربي يتمنى تقليص عدد الجهات على ضوء تجربة ولاية ونصف، الأمر الذي قد يكون سابقاً لأوانه؟
كما يعلم الجميع، فإن “الجهوية” هي تنظيم تقوم السلطة المركزية من خلاله بتفويت جزء من اختصاصاتها لفائدة وحدات ترابية متجانسة لتعزيز التنمية المحلية، النابعة من الخصوصية المميزة لكل جهة، سواء على المستوى الاقتصادي أو الاجتماعي، في أفق تحقيق توازن تنموي بين الجهات المكونة للدولة، مع ما يواكب ذلك من لامركزية إدارية كتحصيل حاصل.
وفي المغرب، اختارت السلطة المركزية سنة 1962 تقسيم المملكة إلى تسع (9) جهات، ليُصبح العدد 12 سنة 1970، ثم يتم تقليصه إلى سبع (7) جهات سنة 1971.
واستقر الوضع على هذا التقسيم لمدة ربع قرن، وهي أطول مدة. لم يتم مراجعته إلا سنة 1997، حيث ارتفع عدد الجهات لأول مرة إلى 16، ليعود إلى الانخفاض سنة 2015، مع اعتماد 12 جهة.
ولعل القارئ النبيه سيلاحظ أن مسار الجهوية بالمغرب، وما عرفته من مد وجزر، يعكس بدرجة أولى مسار المسلسل الديمقراطي ببلادنا، بانفتاحه أحياناً وانغلاقه أحياناً أخرى. كما يمكن القول إن الجهوية، كما تم اعتمادها سنة 2015، تشكل أول مشروع جهوي حقيقي بإرادة واضحة لتقاسم السلطة والتدبير، على مستوى الجهة.
وجيلنا يتذكر إدريس البصري، وزير الداخلية آنذاك، عندما رفع عدد الجماعات المحلية إلى أكثر من 1500 جماعة حضرية وقروية، جلها بلا موارد مالية ولا بشرية ولا بنية تحتية. كان الهدف منها خلق فئة من الأعيان المحليين تقفز مباشرة من هامش المواطنين إلى فضاء الإدارة وتصبح بدورها سلطة تساهم في الضبط الاجتماعي للسكان، وليس للمشاركة في التدبير.
وفي هذا السياق، اتذكر واقعتين:
الأولى، حين حضرت إحدى المناظرات الوطنية للجماعات المحلية في ذلك الوقت. وعند التسجيل وتسلم وثائق المناظرة، قبل الافتتاح، فوجئت بأنه حتى التوصيات التي ستخرج بها المناظرة كانت جاهزة في كتيب. قضينا يومين من الأكل والشرب، وانصرفنا.
أما الثانية، في وزان، وهي من أقدم الجماعات الحضرية بالمغرب. في أواسط الثمانينيات، كنت في دردشة مع منتخب محلي كانت أحواله المادية جيدة، وكان رجلاً فاضلاً ونزيهاً. وكان الصراع قوياً على رئاسة البلدية، والضرب تحت الحزام لا يتوقف. فقلت له: “اش بغيتي بهاد صداع الراس؟”
فكان جوابه بسيطاً وعميقاً: قال لي، “أنا مستعد لدفع جزء من ثروتي غير باش نجلس مع الباشا بجلبابي الأبيض.”
وإذا عدنا إلى الجهوية، فهي بقدر ما تشكل مشروعاً مجتمعياً يؤسس على ثقافة المشاركة كقيمة حقوقية مؤطرة لسلوك الأفراد والجماعات، بقدر ما هي أيضاً سلوك إداري يقتضي رفع مستوى الثقة في رجال ونساء المحيط من طرف ديناصورات المركز، حسب تعبير سمير أمين.
وليس من الصدفة أن جلالة الملك في رسالته السامية إلى المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة، عند حديثه عن سبع تحديات، اكد أن أولها يتمثل في:
“تحدي الأجرأة الفعلية للميثاق الوطني للاتمركز الإداري” ويستمر وينبه إلى “تأخر غالبية القطاعات الوزارية في التفعيل الحقيقي لورش اللاتمركز الإداري“
وهو ما يقف عليه الجميع بشكل يومي، حيث لا يزال وزراؤنا يعتبرون أن التوقيع سلطة لا يجب التفريط فيها، وهو مصدر للجاه والنفوذ، ولإذلال الخصوم عند الضرورة، كما أنه وسيلة لقضاء مآرب أخرى لمن اختار هذا الطريق.
أما حججهم الواهية في ذلك، فتظل دائماً هي الكفاءات احيانا وضعف منسوب الثقة احيانا اخرى.
وهم من اين لبعضهم لا هذه ولا تلك؟
* عبد الرفيع حمضي-كاتب رأي