سلطت دراسة أكاديمية حديثة الضوءَ على جانب مهم من العوامل المؤثرة في الاتصال السياسي بالمغرب، ولاسيما الاتصال لدى الأحزاب المغربية، ووضعت الدراسة هذا الموضوع التواصلي والسياسي الحيوي على مَخبر التمحيص والبحث، خاصة في المرحلة ما بعد 2011 التي تميزت على المستوى الوطني بأحداث مهمة منها تعديل الدستور وإجراء انتخابات سابقة لأوانها تزامنا مع احتجاجات “الربيع العربي” التي اجتاحت المنطقة.

وأشارت الدراسة التي هي أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه تقدم بها الباحث والصحافي نورالدين اليزيد تحت عنوان “الاتصال السياسي بالمغرب (مقاربة تحليلية للاتصال الحزبي ما بعد 2011)”، إلى أن النموذج المغربي في الاتصال السياسي، وتحديدا الاتصال السياسي الحزبي، تؤثر فيه العديد من العوامل، كامتداد لتأثير هاته الأخيرة في العمل السياسي عموما، ولكن وبالنتيجة، في الخطاب اليومي للسياسيين، وفي إنتاج ممارسة معينة للاتصال السياسي.

وتورد الأطروحة التي نوقشت نهاية الأسبوع الماضي برحاب كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية-السويسي التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط، أن أول تلك العوامل وأهمها التي تؤثر في الاتصال الحزبي بالمغرب هي محورية المؤسسة الملكية في النظام السياسي الوطني، ليس كونها كحَكَم يعلو على الصراعات، أو باعتبار الملك هو رئيس الدولة بمرجعية دينية ودستورية، بل كذلك كفاعل استراتيجي حامل لمشروع مجتمعي، وهو ما يجعل ملك البلاد في قلب الحياة السياسية، مما يؤثر تواجده الوازن، بكيفية ما، في خطاب السياسيين، كمؤشر حاسم على نمط معين من الاتصال السياسي السائد.

وأضاف صاحب الأطروحة، الصحافي المهني الذي اشتغل في العديد من المنابر الإعلامية الوطنية والعربية، أن من العوامل الأخرى المؤثرة في إنتاج اتصال سياسي بالمغرب، هناك التواجد القوي الملحوظ للسلطة في ما يسمى “الإعلام الجماهيري”، أي وسائل الإعلام السمعي البصري بالخصوص (التلفزيون والإذاعة)، الذي يعتبر إحدى أبرز قنوات تمرير الرسائل السياسية وتواصل السياسيين مع الجمهور، وصناعة وتأطير الرأي العام، موضحا أنه بالنسبة للتجربة المغربية، فقد عملت الدولة منذ سنوات على تقنين وسائل الإعلام، ولاسيما ما يهم القطاع العمومي، حيث نظمت ترسانةٌ قانونية الولوجَ إليه من لدن مختلف الفاعلين، بمن فيهم السياسيون، وهم الفئة التي خصها المشرع المغربي بمساحات من الاستفادة من هذا الإعلام، ويحظون بحصص مهمة في الولوج إلى خدماته، ولاسيما في مناسبات الاستحقاقات الانتخابية، راسِماً بذلك سياسة إعلامية، لها ما لها وعليها ما عليها.

ووقف الباحث في دراسته، وهو يرصد أبرز الاستحقاقات الانتخابية منذ انتخابات سنة 2011، واستحقاق الاستفتاء الوطني على الدستور في نفس السنة، إلى غاية المحطة الانتخابية المتعددة لسنة 2021، عند بعض النقائص المسجلة في تعاطي الإعلام الرسمي مع الأحزاب السياسية، وفي حجم ولوج هذه الأحزاب إلى خدماته في سياق تواصلهم السياسي مع الناخبين، وهو ما قد يؤدي، بالإضافة إلى إضعاف قدرة التنظيم الحزبي على أداء وظائفه الدستورية في تأطير وتنشئة المواطنين، فإن تضييق هامش ولوج السياسيين لوسائل الإعلام الجماهيري يؤدي أيضا إلى وضع غير صحي، بل أكثر خطورة، ما يقود بالنتيجة إلى ما سماه البعض بنظرية “الاتجاه السائد”؛ وذلك عندما يطغى الخطاب الرسمي على دونه من الخطابات بما فيها خطابات السياسيين، فنكون أمام اتصال/تواصل حزبي ضعيف.  

وتطرقت الدراسة أيضا إلى طبيعة بنية القطاع الخاص في وسائل الإعلام، بما في ذلك الإعلام الحزبي، التي تحيد في كثير من الأحيان عن رسالتها التأطيرية والتنويرية السليمة للرأي العام، بسبب ارتباطها بأجندات السياسيين أو لوبيات المصالح أو مالكي أسهمها؛ فتتحول إلى منابر ناطقة باسم أصحابها، ومنافحة عن مصالحهم، دون مصالح الوطن والمواطنين، ومُخلة بوظائفها التوعوية والتربوية والتكوينية والتعبوية، وهذا ما ينتج عنه خلل في مجال الاتصال السياسي ويعطل حركته، باعتبار أن من غايات هذا “الاتصال” هو تأطير وتوعية وتحشيد المواطنين لأجل المصلحة العامة.

ويخلص الباحث في دراسته إلى أنه في ظل بيئة غير سليمة لنسقية وسائل الإعلام، يصبح من الصعوبة بمكان، على الفاعل السياسي، إنتاج اتصال سياسي ناجع، يحقق وظائفه في التنشئة والتعبئة والتوعية للمواطنين. بل إن من شأن أي احتكار لوسائل الاتصال، أن يهدد حرية التعبير والرأي، وحتى التعددية السياسية والفكرية؛ فلا يمكن الحديث عن حياة سياسة صحية وطبيعية، في غياب وسائل إعلام واتصال منفتحة، فبالأحرى الحديث عن تعددية سياسية، أو اتصال سياسي فاعل ومؤثر؛ ولعل ذلك ما قصده غابرييل ألموند Gabriel Almond من كلامه حين قال: “كل شيء في السياسة اتصال، فنظام الاتصال هو إحدى القنوات الرئيسية لتدفق المعلومات من النخبة السياسية إلى الجماهير، وأيضا لنَقْل مشاكل وطموحات وتصورات الجماهير إلى النخبة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *