عبد الرزاق بوتمزار

ح. 90

وعند عتبة الدّار تُجهَض الأحلام..

ذاتَ يوم، أتذكّر، طلب مني جْحا أن أذهب لاستقبال وافد جديد على الدّار. قال لي إنه غريبٌ عن الرّباط وإنه سينزل في محطة “القامْرة” ولا يعرف أين يُولي وجهه في شوارع المدينة بحثاً عن حيّ المُحيط. دفع لي، بالكاد، ثمن رحلتَي التاكسي. التحقتُ بالمحطة، أنتظر “الموظفَ” الجديد. قدِم من حاضرة مُوغلة في الجنوب. استقبلتُه ورافقته إلى الدّار.

أرهقه، المسكين، طولُ مسافة السّفر. كان خرّيجَ حقوق. راح يسأل، بعد تجاوُز حرج شكليات التّعارف، عن العمل وأجوائه وعن نوعية المهام ّالتي قد يُكلَّف بها.. كان جحا قد طلب مني أن أحاول أن أشرح للعامل المُلتحق طبيعة عمله المُتوقع. مَهمّة واحدة في انتظارك، قلتُ لنفسي، قبل أن أشرح لمرافقي:
-لا تتوقع أمراً استثنائيا؛ ضعْ شهادتك الجامعية ومَداركك كلها جانباً؛ وحتى أعصابَك!… أن تعُسّ على الدّار، في الليل والنهار، لو تدري، هي مَهمّتك الوحيدة.

حاولتُ أن أضعه في الصّورة بكلّ وضوح.
كان قد انساق وراء تخيلات الجامعيّ في دواخله، يتصوّر أموراً ليستْ إلا في مُخيلته. حين سمعتُه يتحدّث عن شهادته الجامعية وعقد العمل والأجْر الشهري، أيقنتُ أنّ جْحا لم يُخبرْه بالحقيقة؛ لقد ترك لي المهمّةَ كلها، القذِرُ الجَبان!
استطعتُ أن أهيّئ أحمد نفسياً لتقبُّلِ الواقع.

متى تستوي كفّتا المُعادَلة قليلا، أيّها الزّمانُ الرّعديد؟! ألا يكفي كلّ ما مصصْتُم حتى الآن من دماء طموحات شباب هذه الرّبوع، من واحات صحارى الجنوب إلى أعالي الرّيف وشامخ قمم الأطلس؟

-قدَرُك أنْ تنسى أمرَ شهادتك العُليا وكلّ عذابات سنوات التحصيل وتتأقلم مع “حْصْلتك” الآنية..
قلتُ له، وأنا أتطلع إليه. في تقاسيمه القمحية، قرأتُ ردّة الكبرياء؛ لكنْ، مهلاً، قلتُ، لو تدْري، كمْ أضعنا من سنوات بين جُدران حجرات الدرس وارتضينا -مُكرَهين لا أبطالاً- هذا القدَر الأحمقَ في الأخير!

تراجعتْ مخالبُ الأنفة الجنوبية إلى مكمنها وخفّت الحِدّة في نظرته وبدأت أساريره ترتخي، بعد أن حكيتُ له قسطاً من طرائف جْحا، مُديرنا، مديرِه الجديد.

تابَعنا حديثَنا في “الدّار”. وجدناها خالية إلا من حْمّادي، الشّمالي، الوحيد دوماً. عرّفتُهما على بعضهما. صرْنا اثنين؛ تواطأ معي حمّادي في تهيئ أحمد لواقع جديد، لعمل قد يدفع فيه من جيبه كي يُكمل الشّهر، مُشتغلا تحت امرأة مُدير ينتمي إلى زمَن جْحا، المُوغل.

في الصّباح الموالي، جاء جْحا قبل موعد حضوره المعتاد. هكذا تقتضي أعرافه في مثل هذه المناسَبة. بحلول وافد جديد على الدّار، لا بأسَ حتى في إبداء حرص، ولو مفضوح، على إلقاء تحية الصّباح على الجميع. يا لَلتضحية الكبيرة من سعادة المدير، المُهرّج لو يدري، جحا.

لا عليك، قلنا في أنفسنا، ونحن نراقب حركات جحا، المُضحكة/ المبكية. كنّا قد تحدّثنا، في مُناسَبات عديدة، في جميع جوانب شخصه غير الكريم. حتى الوافدُ الجديد كان قد استوعب الكثيرَ من جلستنا في الليلة الماضية. وتظاهَر أحمد بأنه يُصدّق مُديره الجديد وتظاهرْنا. وانتهتْ مسرحية ذلك الصّباح بالمشهد المُتكرّر ذاته: سيتجرّع جْحا لعاب مُستخدَميه، بمن فيهم أحمد، في قهوته الصّباحية، التي كانت لحظة إعدادها اللقطةَ التي أدهشتْ أحمد حقا، خُصوصاً حين دنتْ منه ألطاف وطلبت منه أن ينخرط في اللعبة بلا أدنى حرج، ومنذ اليوم الأول.

رأى أحمد أمانيه الكبيرات تتبخّر، يوماً بعد يوم. فهمَ نوع “الوظيفة” التي استقدمه من أجلها مُديره الجديد. أخذ جحا يبعثه رفقة حْمادي كي يتعرّف على نقط بيع إصدارات الدّار. يمضيان سحابة يومهما مُتنقّلَين من كشك إلى مكتبة، ومن هذه إلى كشك. يُحاسبان الباعة ويستخلصان الأرباح ويعودان بها إلى جْحا، الجشِع، ومعها لائحةٌ بالإصدارات المطلوبة. يقضيان ليلهما في الدّار؛ بين الكتب والحواسيب يبيتان.

في الصباح التالي، يغادران في الاتّجاهات ذاتِها. ما عاد في حاجة، أحمدُ، لأنْ يتساءل، كما فعل حين التقيتُه لأول مرّة في القامْرة: تُرى، ماذا تكون مَهمّتي في الدّار!؟

ما أصعبَ تأمين خبز اليوم في بلد يُقبَل فيه أن يكون أمثال جْحا مُديري نشر، صانعِي ثقافة! كيف يتخلى الجامعيّ في أحمد عن نصيبه من الكرامة، ونتخلى، تحت إمرة شخص من “صنف” جْحا حين يُمثّل ناشرا؟!
-وهل أمامي خياراتٌ كثيرة؟
كان أحمد يتساءل حين يُلمّح له أحدُنا إلى أنّ في إمكانه الانسحاب قبل أن يتورّط في علاقة حُبّ غير مُتكافئة مع هذه المهنة اللعينة؛ ويُضيف:
-لم يُخبرني جْحا ولا أخبرَ والدِي بأيّ تفصيل بخصوص نوع العمل الذي سأجده في انتظاري هنا.. على إيقاعات أصوات أحلامي الجامحة، قطعتُ مئات الكيلومترات لأجدَني، في الأخير، تائهاً بين عناوين أكشاك بئيسة في النهار، حارساً صمتَ الجُدران ليلاً.. هل أمامي خياراتٌ كثيرة، في نظركم!؟

“لا، ليستْ أمامك خياراتٌ ولا أمامنا”.. تقول عُيون السّامعين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *