عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 88

جْحا يُمثّل ناشراً..

قبل حضور المدير بحوالي ربع ساعة تقريبا، كان يصل الشّريفْ. يمضي معه داخل المكتب وقتاً يكفي ألطاف لكي تُنهيّ دورتها الصّباحية لجمع لعاب العاملين، الذي تستقيه مُديرَها كلّ صباح.

-لماذا تضعين كثيراً من البنّ؟
-كي لا يظهر أيّ أثر لمخاطك!
تقول لسائلها حْمّادي ضاحكةً؛ تُعيد إليه جزءاً من كرامةٍ مهدورة وإليها. بطريقتها وطريقتهم، ينتقمون لأنفسهم من وضعٍ قائم، قاتم، فيه حلقةٌ ما على غير ما يرام؛ حلقات كثيرة في الحقيقة..

لأنّني ألازم الشّريفْ لفترات طويلة من ساعات اليوم، كانوا يحتاطون مني أيضاً وهم يُعدّون خططهم الجهنّمية، خُصوصاً في البداية. لكنْ بمرور الأيام، صرتُ لا أشكّل لهمْ موضعَ ارتياب، فذابت المسافات. بدأ وضعٌ آخرُ يتشكل في الدّار، جئتُ في وسطه، بين طرفَي النقيض في زمان النقائض؛ بين الشّريفْ والمدير، وبين الأول وبقية المُستخدَمين. لم أكنْ أفعلُ غيرَ أداء عملي بكثير من المُثابَرة والاهتمام؛ ما لم يمنعني من مُتابَعة أحداثٍ جانبية بين الطرفين تحدُث في الدّار؛ وما كان أكثرَ الأحداث الجانبية بحضور جْحا يمثّل ناشراً!..

كان عليّ أن أضيف شخصية أخرى إلى اللائحة وأعيد مخطوطَ حكايتي، المُؤجَّلة كلَّ مرّة، إلى رفّ الانتظار. عليّ، حالياً، أن أصحّح زلات أقلام الآخرين والهفوات. أجّلْ سرْدَ حكايتك إلى وقت لاحق واستمتعْ باكتشاف هذا الشّخص العجائبيّ؛ حتما سيُلهمُك لك جْحا كلَّ يوم بحكاية جديدة (كم يكفيني، بالمُناسَبة، كي أستطيع أن أصف جْحا زماننا ذاك؟ الكثير حتماً)..

بدأت الغشاوة تنزاح عن سماء الدّار. يوما بعد يوم، كانت الحقيقة تتبدّى أَوضَحَ وأقبَح. ما عاد هناك الكثير ممّا يُمكن إخفاؤه: جْحا مُهرّجٌ من الأزمنة الرّديئة يُمثّل دورَ صانعِ ثقافة! ولك أنت، أيّها الجامعيّ الحالم بنشر حكايتك الأولى، أن تتخلص من كلّ أحلامك والنظريات؛ هنا، في هذي الدّار، يقول المُهرّج، بالأفعال والكلمات: “النظرية والنظرة والقواعد والأفكار والاقتراح والرّأي لي، لي وحدي!”..
هو فوق ركحه يفعل ما يشاء ويرتجل بلا أدنى مقومات الارتجال: “ضدّ كلّ منطقٍ؛ سأحتكر القول وأرى، وحدي، ما يجب وما لا يجب!”.. سيقول جْحا مُصدّقاً نفسَه. إذا كانت الحقيقة إلى اليمين قال لك: لا، هي هناك، جهة َالشِّمال؛ ألا ترى؟ وإنْ كانت في الشّمال قال هي في اليمين! هكذا فقط، لسبب لا يعرفه غيرُه.

رغم صفعة مهدي وزوجته ظلّ جحا وفياً لغرابته ومنطقه الأعوج المُتعنّت. يبدو لك أنه لا يريد أن يفهم أنه لا يفهم، خُصوصاً في صناعة الثقافة، التي يُصرّ، بإلحاح عجيب، على الإمساك بتلابيبها وهي منه تتنصّل بإلحاح أقوى.
حين كانت الرّاقنتان تنتهيان من تصفيف كلمات المخطوط، يُطبَع الأخير ويوضع تحت تصرّف المُراجعين اللغويين. في البداية، لم يكن هناك سوانا، الشّريفْ وأنا، قبل أن يستقدم مُصحّحاً آخَر خلال أيامي الأخيرة في داره. كنّا نتناوب على مُراجَعة المخطوط وتنقيحه؛ نُدخِل تصحيحاتنا على شاشة الجهاز رفقة الرّاقنتين، ثم تتكلف المخرجة الفنية بالجزء الأخير من العملية. في تلك المرحلة، يُستحسَن حضور صاحب الكتاب كي يقف بنفسه على اختيار الغلاف وعلى التفاصيل الصّغيرة قبل الطبع.

كان أجملُ ما وقع لي في تلك الدّار أنّني تعرّفتُ أساتذةً وأدباءَ ونقادا مغاربة، وعربا أيضاً.. أسماء كثيرة وكبيرة مرّتْ من هناك، جمعتني ببعضهم جلسات وحوارات جميلة مُثمرة ومفيدة، خُصوصاً في غياب سيادة أبي جهل، المدير جْحا. كانت معرفتي بهؤلاء، قبل ذلك، تتوقف عند حدود علاقة مُرسل -مُرسَل إليه؛ فكثيرا ما استهلكتُ، في مرحلة ما، وبغير قليل من الاستمتاع أحياناً، بناتِ أفكارٍ جميلة تفتّقت عنها عبقرياتُ بعض تلك الأسماء. وأنا في الدّار، صار بإمكاني لقاء هؤلاء المُبدعين ومُجالَستهم وتبادُل أحاديثَ معهم بشأن أمور تخُصّ مشاريعَ مُؤلفاتهم.. كانت فرص الالتقاء بهم تزداد، بالخصوص، في المراحل الأخيرة من إعداد المخطوط للنشر.

وطبعاً، لم يكن “البّاطرونْ” يُحبّ أن أجتمع بواحد من هؤلاء. لسببٍ ما، كان صاحب الدّار يحرص على أن يجعلني، أنا تحديدا، بعيداً عن دائرة الكتّاب الذين كان يتعامل معهم. وحتى في المرّات القليلة التي يضطرّ فيها إلى تحمّل جلسة تجمعني بأحدهم، بطلبٍ منهم أو مني، لتوضيح بعض الأمور وتبرير اختياراتي أو لشرحها، كان جْحا يحرص، ما أمكنه، على جعل اللقاء قصيرا وأنْ يجريَ في حضوره. وكم كان يكره، لسببٍ لم أعرفه أبداً، أن يمتدح أحدُهم عملي أو يُثنيَ على المجهود الذي بَذلتُ في مُراجعة مخطوطه. هل يجب أن تجتمع فيك جميع الرذائل لكي تكون ناشراً “ناجحا”!؟.. كنتُ أسائل نفسي، وأنا أراقب ردود أفعاله الغريبة والمفضوحة.

حين يُفلح في الإمساك بأحد الكتاب (المساكين) لا يترك تلابيبه إلا بعد أن يَمتصّ أكبر قدْر مُمكن من قطرات مداد إبداعه وعرق جبينه. متلذّذاً ومُنتشياً، سيُشعل سيجارته وينفث من وراء دخانها ضحكته البغيضة، مُخطّطاً للإيقاع بالضحية الموالية.
يتبادل كلمات ضاحكة مع ساعده الأيمن، الشّريفْ، مُباشَرةً بعد اختفاء كاتب أو أديب من مُنتجي ثقافتنا، المسكينة مثلهم ومثلي تماما. وما إنْ يغلق البابَ وراء أحد ضحايا فلسفته الخاصّة في نشر الثقافة حتى تعلو ابتسامة ماكرة وجهه وربّما أطلق ضحكة مُجلجلة.

كان جْحا، بكلّ بساطة، يَنصِب على كلّ “مزغوب” من أدباء البلد وكتّابه ويأكل بالباطل أرزاقهم. لم أكن أعرف ولا كانتْ لي رغبة في معرفة نوعية الاتفاقات التي يُبرمها معهم داخل مكتبه؛ لكنّني كنتُ على يقين من أمر واحد: كما يأكلنا في أرزاقنا، نحن مُستخدَميه، لا شكّ في أنه يأكل الكتّاب أيضاً في أرزاقهم. كان كلّ مَن تعامَل منهم مع جْحا -الناشر في كِتاب ما ينتهي إلى الخلاصة نفسِها التي انتهى إليها مَن تعامل معه قبله؛ وإلى الخلاصة نفسها سينتهي اللاحق في لائحة ضحايا جْحا، المُتلذذ، ببرودة دم يُحسَد عليها، باصطياد عشاق الثقافة في مملكة غير مُثقفة.

يضحك عليهم بحديث عن “مرجوعات كثيرة وضُعف مهول في المبيعات”؛ ثمّ يُدخلهم إلى غرفة جانبية (يكون قد كدّسَ فيها أعداداً كثيرة من الإصدار قبل زيارة صاحبه).. يشير نحو الأعداد المُتراصّة من الكِتاب “البائر في السّوق”، وهو يُتمتم بكلمات غاضبة حول “الخسارة والتكاليف وكساد الثقافة”.. يستدير ويسبق ضيفَه /ضحيته إلى مكتبه ويُغلق دونهما الباب، كي يتفاهما على “كلّ هذه الخسارة”، كما كان يُردّد في كلّ مرّة. يكون معهما الشّريفْ، في حالات كثيرة، شاهداً أخرسَ على جرائمَ تُرتكب في حقّ المثقفين وفي حق الثقافة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *