عبد الرزاق بوتمزار

 

ح. 87

لسعة عقرب..

هل يمكن أن تكون نظرية الهنود حول تناسُخ الأرواح صحيحة؟ هل بالإمكان أن تُستعادَ شخصيات من الماضي وتتجسّدَ في أخرى من الحاضر!؟.. كثيرا ما بدا لي المُدير لابساً مسوح جحا وروحَه المُضحكة، مُطابقاً حركاته وأفعاله إلى حدّ التّماهي. يتنقل فوق ركح الدّار مُخلفاً بين غرف المكان بسماتٍ على الشّفاه؛ ولكلٍّ أن يبتسم لحالة من حالات بطل المكان الوحيد الأوحد. قد ترى فيه المُخادعَ والطيّب؛ الجشِعَ والكريم؛ اللصَّ والمسكين؛ الرّأسماليَ والفقير؛ المُستغِلّ والمُتعاطف؛ المُتعالم والعارف في كلّ شيء وفي لا شيء.. لكَ أن ترسم البسمة التي تُريد في حضرة المُهرّج الأكبر؛ ولك أن تعبس، كلّ العبوس أو بعضَه، وجحا يمرّ إلى جانبك.

قبل حمّادي، كان هناك مهدي. وذات يوم، فاجأ مهدي المُدير، وهو ينسحب وزوجته “العقرب”، ألباب، مُخلفَيْن الخراب والدّمار لصاحب الدّار. ولأنّ جحا لم يكنْ كثيرَ فهمٍ لما يجري في حواسيب الدّار فقد داخ وظلّ مُمسكاً برأسه الثقيل (أخبرني فقط: بماذا هو ثقيل رأسك الفارغ؟!)..

انتهى إلى استقدام تقنيّ يُعيد الرّوح إلى أجهزته المَنسُوفة. فقبل مُغادرتهما الطوعية، التي لم يكن يعلم بها غيرُهما، مسحَا ذاكرة جميع حواسيب الدّار. لم يتركا قالباً أو نموذجاً لسلسلة من إصدارٍ إلا شطَباه.

راح جحا يقطع ممرّا في القسم التقنيّ، مُعرّجاً إلى اليسار؛ يدلف إلى مكتبه، يُشعل سيجارة ويعود. ومع الدخّان، يطرد حسراتِ مقلب ما كان له في حُسبان. سهرنا إلى وقت مُتأخّر في تلك الليلة، قبل أن يعيد التقنيّ، أخيراً، الرّوحَ إلى جوف الأجهزة. تنفّس جحا الصّعداء. وفي الغد، بدأنا مرحلة جديدة في تاريخ نشر ذاك الزّمان، غيرِ المأسوف على نشره ولا على هذه الطينة من ناشريه.

وكان جحا حديثَ ذلك الأسبوع. كلما وجد المُستخدَمون مُناسَبة تناولوا موضوع انتقام ألباب وزوجها، المُوزِّع، من مُديرهما السّابق، جحا الحالي. راكما تجربة طويلة وكوّنا شبكةَ علاقات؛ طوّرا مداركهما، كلٌّ في مجاله، قبل أن يختفيا في شوارع العاصمة. تركا الفراغ في كلّ شيء وفي كلّ زاوية من الدّار وغادرا. نسَفا مشاريع بُوشكارة، الذي قهَرهُما زمنا طويلا، قبل أن يُوجّها له الضّربة القاضية. كان جحا يتحرّك بخُفوت أكثرَ في الأيام التي أعقبت صفعة مُستخدمَيْه. حين كان يبدو لنا شبحه الشّارد قادماً في اتّجاهنا نصمت ونرقبه. مثيرا للشّفقة صار. يطلب شيئاً أو يُعطي أمرا، ثمّ ينصرف، مُتعثراً في أذيال خيبته.

وكانت قهوة العاشرة انتقاما إضافيا يتجرّع جحا كأسه، يوميا، حتى آخر قطرة. لم يرحموه أو يُشفقوا عليه حتى في أيام محنته الأولى التي أعقبت مقلب مهدي وألباب. واصلَ جْحا رشف ريق الصّباح مُنتشياً بدخّان سيجاراته. مع حبّات من البُنّ وماء مغلى دون سكر، واصلتْ ألطاف حرصَها على جولتها الصّباحية على زملاء العمل. يتبرّعون لها بـ”تـّفـُووو” في قعر الكأس، وهي تُحرّكها، مُتنقلة من واحد إلى أخرى، ومن هذه إلى التالي. حين تصل إليّ، كانت تكتفي بإلقاء نظرة نحوي مؤدّاها: اصمتْ، على الأقلّ!

وصمتتُ، مراقباً مُشارَكة الجميع في إعداد كأس القهوة المُميَّزة لمُديرهم. ربّما كانوا فقط يُشجّعون ألطاف الكسلى على إعداد القهوة دون كثيرِ تبرّم! في نهاية اللعبة الجماعية، التي صارت طقساً يوميا لا غنى عنه، يبتلع جحا الترياقَ غير الشّافي دون أن تكون لديه أدنى فكرة عمّا أرسل إلى جوفه. وعلى إيقاعاتِ ضحكات وتعليقات على جْحا وقهوتِه الاستثنائية، يبدأ يومٌ آخر من العمل بين جُدران الدّار.

استقرّ مهدي وألباب في عمارة وسط الرّباط وشرعَا في الطبع والنّشر والتّوزيع لحسابهما. كانا قد عقدا بعض الاتفاقيات خلال أيامهما الأخيرة في الدّار؛ وقبل أن يخرباها على رأس صاحبها، بدآ التكفل بنشر أسبوعية جهوية، كأول الغيث..

كان جحا يُعوّل عليهما كثيرا. ألباب كانت مُخرجتَه الفنية التي تتولى كل ما يتعلق بإعداد المخطوط للنشر. شربت الصّنعة، وكذلك فعل مهدي في ما يرتبط بتوزيع إصدارات الدّار وإحصاء مرجوعاتها واستخلاص المبالغ المستحَقة من أرباب مكتبات الرّباط وأكشاكها. مدة طويلة ظلا يستغلان وقتهيما بين جُدران الدّار، وجحا الدّار يظن أنه يستغلهما بمصّ راتبيهما وجعلهما في مستوى الضّحالة. استرجعا كلَّ ما كان لهما في ذمته عن طريق تلك الصّفعة التي وجّهاها له. تركاه وحيدا، مقطوعا من.. جميع قوالب ونماذج إصداراته في حاسوب داره المركزيّ. اشرَبْ، اشربْ، يا جحا، كأسَ الرّيق بالقهوة وبُخَّ دخاناً وفقصة.

كان الشّريفْ ملاذَ جْحا الوحيدَ في الأيام العصيبة التي مرّت عليه بعد أن تركه مهدي وزوجته، العقرب الخبيثة. طويلا، حاول الشّريفْ إخراج مُديره من تأثير وقع الصّدمة. يترك عمله جانبا، في أحيان كثيرة، ويُجالسه في مكتبه. كنّا نسمع ضحكاتهما بين حين وحين، دون أن نتبيّن ما كانا يقولان ولا على ماذا يضحكان.

في تلك الدّار وجدتُ نفسي بين كتلتين، مُتموقعاً في الوسط بين الطرفين. أمضي وقتي قرب الرّاقنتين وزبيدة وحمّادي؛ لكني، بحكم عملي، كنتُ أكثر ارتباطاً بالمُدقّق وبمُديره، جْحا. معهما صرتُ أتداول في الأمور كلّ يوم أكثرَ فأكثرَ، بعد أن اقتنع بوشكارة، أخيراً، بقدرتي على التكفل التامّ بتنقية أيّ مخطوط وجعله قابلا للنّشر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *