تفيد المعطيات الرسمية ـ التي ليس لنا كمواطنين صالحين إلا تصديقها ـ أنه بمناسبة عيد الأضحى لهذه السنة، تم تحويل حوالي 14 مليار درهم -مقابل أكثر من ستة ملايين أضحية- إلى العالم القروي، الذي يعاني من آثار الجفاف للسنة الخامسة على التوالي، ومع ذلك لازال يقطنه لحد الآن حوالي 13 مليون نسمة (برافو)حسب النشرة الإحصائية للمندوبية السامية للتخطيط .

لكن ما دامت الشياطين تختبئ في التفاصيل كما يقال فيبقى السؤال مشروعا عن مؤشرات تحويل كل هذا المبلغ إلى البادية المغربية، في غياب علاقة مباشرة بين الكساب والمستهلك النهائي، مع العلم أن الإدارة لم تستطع لحد الآن ضبط هذه العملية، أو على الأقل أن تتحكم في سلسلة الوسطاء أو (الشناقة )كما هو متداول عند عامة الناس.

وبالتالي ماهو حجم السيولة المالية التي تم صَبُها في مسارات أخرى غير العالم القروي؟، خاصة ونحن نعلم أن كل معاملات العيد تتم نقدا وخارج أي مسار بنكي من شأنه ترك أثر لهذه المعاملات Traçabilité.

هل الأمر معقد إلى هذا الحد الذي عجز فيه السابقون واللاحقون على إيجاد آلية تضبط هذه العلاقة، رغم أننا في هذا الوطن العزيز نحتفل بهذه المناسبة الدينية والاجتماعية منذ أكثر من 12 قرن؟

لنعود إلى 6 ملايين أضحية التي نُحِرَت منها أكثر من 4 ملايين بالوسط الحضري .ولنتأمل هذه الأرقام وبدون تعليق :

ـ أكثر من 4 ملايين (بطانة )في شوارعنا.

ـ أكثر من 4 ملايين رأس يحتاج إلى (تشويط )قبل تبخيره.

ـ أكثر من 16 مليون من (كرعين )يجب تنظيفها وإعدادها للاستهلاك الآدمي.

ـ ملايين من أمتار الأمعاء الرقيقة والغليظة تحتاج إلى إفراغها وتنظيفها.

ناهيكم على ما خلفته هذه الحيوانات من مخلفات بالمنازل والشوارع التي تحولت إلى اسطبل مفتوح.

طبعا الجماعات الترابية تجندت لمواجهة هذا الوضع الصحي والبيئي الذي يصعب تصنيفه، معتمدة في ذلك وبشكل مطلق على إمكانياتها الذاتية، ليقينها التام أن ما قامت به الإذاعة والتلفزة من إعلانات لدعوة المواطنين للانخراط في هذه العملية كان صداها جد محدود، لكونها مجرد وصلات إشهارية مفكر فيها بمنطق (الحملة)، وليست مبنية على خلفية إذكاء السلوك المدني المتحضر؛ باعتباره شعورا إيجابيا ينمي الانتماء إلى الجماعة والمساهمة في تنميتها والسعي إلى الحفاظ عليها وعلى مصالحها ورفاهيتها في جميع المجالات.

مع التأكيد أن السلوك المدني ليس شعارا يستهلك بوصلة تلفزية تدعو الناس بكلام جاف وبدون روح إلى الحفاظ على نظافة الشوارع واقتصاد استهلاك الماء وعدم رمي الأزبال أو غيره من السلوكات المشينة.

إن السلوك المدني هو منظومة عيش، وأسلوب حياة، هو ثقافة يجب العمل على تملكها من طرف المواطنين.

كم كانت موفقة جمعية آفاق التي كان يرأسها البروفيسور عبد الرحيم الهاروشي رحمه الله عندما اختارت شعارها الخالد”: المواطنة الحقيقية…..سلوكات يومية

لنتجول بشوارعنا ومدارسنا وإداراتنا ومستشفياتنا ومقابرنا وحتى مساجدنا .

تأملوا كيف نخاطب بعضنا البعض، مع حجم العنف الذي نُحَمِلُه لكلماتنا ولغتنا كلما نشب خلاف بسيط أو سوء فهم تافه!.

تأملوا كيف ندبر العلاقة مع الجيران والسانديك والسكن المشترك بالإقامات الجماعية !.

لاحظوا كيف هي طرقنا ساحة حرب (ومجال للصراع الطبقي) بين صاحب الدراجة والسيارة، بين هذا الأخير وسائق الحافلة، بين السائقين الذكور والسائقات الإناث وبين كل هؤلاء والراجلين.

فالأمر لا يحتاج إلى شرطي المرور لتنظيم العملية، بل إلى كارل ماركس لتحليل الظاهرة.

لندقق النظر كيف نتعامل مع الممتلكات العامة انطلاقا من طاولة المدرسة عندما يحفرها التلميذ بقلمه أو الحافلة والقطار عندما يرميهما مشجع (مقرقب ) بعد انتهاء المقابلة. مرورا بمن يترامون على الملك العام والممتلكات العمومية ويتصرفون فيها سواء كانت غابة أو بحرا أو منقولا. إلى ذلك الموظف البسيط الذي أخذ مصباح مكتبه لاستعماله في المنزل، فضبط وعوقب، والآخر الأبسط منه والذي أخذ قطعة صابون من دورة المياه فاستهزئ به الجميع.!

أما الانضباط للوقت واحترامه باعتباره واجبا في كل أبعاده المهنية والاجتماعية فتلك حكاية تحكى ( كان لي صديق حديث التعيين بإحدى الوزارات، وكان يتقاسم المكتب مع أطر ثلاث، لسوء حظه أنه كان يحضر إلى العمل على الساعة الثامنة والنصف كما هو مفروض إداريا، ومنذ اليوم الأول وزملاؤه في المكتب يتنمرون عليه ويسخرون منه. وذات صباح عنفه أحد الثلاث بكلام ناب وختمه صائحا واش بغيتي دسر علينا الكلاب ديال الإدارة؟)، هو الآن بإحدى مراكز البحث بفرنسا ومتجنس.

السلوك المدني المتحضر ليس ترفا فكريا يمكن تأجيله في انتظار التنمية والرخاء، كما أنه ليس مشروعا يمكن إنجازه في أية لحظة، بل إن كل تأجيل أو تأخير يزيد الأمر تعقيدا.

فالطريق السيار والمطار والميناء بل حتى احتضان كأس العالم يمكن أن يتم بقرار إذا ما توفرت الإمكانيات، لكن سلوك الناس وقيم مجتمعهم الثقافية لا يمكن تغييرها بقرار، أو بعملية إشهارية.

إن السلوك المدني لا يقل أهمية عن محاربة الأمية بكل أشكالها فلا تنمية مع الأمية كما لا تنمية مع كل سلوك همجي وعدواني (مع الاعتذار عن عنف الكلمات)، حيث “يفقد الإنسان رشده وصوابه ويتحول إلى كائن غريب فيختفي العقل والفكر والدين والأخلاق والقانون وتحل محله الغريزة والرغبة واللذة.” حسب تعبير أحد الباحثين.

العدوانية في العلاقات الاجتماعية ومع الآخرين، في القول والفعل ورد الفعل، همجية في العلاقة مع المحيط والبيئة والطبيعة.

وفي الختام فإن الدينامية التي تعرفها بلادنا في مجالات عديدة، إن على مستوى تطوير البنية التحتية والتجهيزات الأساسية، أو ما تعرفه من تحول على مستوى ممارسة المؤسسات الإدارية والسياسية والمدنية، لن ينتج مجمل ما ينتظر منها من قفزة تنموية نوعية، إذا لم تواكبها استراتيجية وطنية للتربية المدنية بعيدة المدى وذلك لتوطين السلوك المدني المتحضر في المجتمع، استراتيجية يكون عمودها الفقري هو السلوك والعمل والممارسة اليومية للمسؤولين عن الشأن العام فالقدوة إلزامية للتحفيز، لتمتد إلى الأسرة كنواة مجتمعية محددة لسلوك الناشئة، مرورا بالمدرسة بكل بنياتها، إضافة إلى الفاعلين المدنيين …الخ.

 كل ذلك الآن وليس غدا.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *