بسلالات الأغنام الأكثر طلبا عند البيضاويين كـ”الصردي” و”تمحضيت” و”وبن كيل” و”أبي الجعد”… وبين زقاق وآخر تنتصب خيام، أشبه بمطاعم الأسواق الشعبية، وأخرى للحلاقة وبيع “القنب والسكاكين والشوايات”

*الدار البيضاء-حسن عين الحياة

كشلال تدفق فجأة على أرشيف الذاكرة، تنهال عليَّ الآن صور الماضي القريب، دفعة واحدة، وأنا أمُر بمحاذاة “رحبة لغنم” بحي إفريقيا في الدارالبيضاء، والتي هي الآن مجرد مساحة مُتربة وفارغة وشاسعة وميتة على طول السنة، اللهم إحيائها موسميا، بعد تحويل جزء منها إلى فضاء لأداء صلاة العيدين، أو إحياء بعض الأنشطة الفنية فيها.

الآن، أحن مثل كثير من المعذبين برحلات البحث عن الكبش في الأسواق الممتازة والضواحي، لهذا السوق الذي كان سكان بن امسيك يتباهون بأنه أكبر سوق للأغنام في القارة الأفريقية، وإن كان صدفة قد حمل اسم “سوق إفريقيا للأغنام”. إذ كان لوحده يغطي حاجيات سكان البيضاء والنواحي من الأضاحي. وبقدر ما كان ينمي مداخيل المقاطعة بأموال “الصنك” (حوالي 250 مليون سنتيم)، كان ينعش الدورة الاقتصادية في ابن امسيك.

كان السوق خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي وحتى بداية الألفية الثالثة، أشبه بـ”فيلاج” صغير ينبض بالحياة.. وعلى الجهة المقابلة له، تتحول عشرات المحلات إلى “كراجات” تعج بـ”المليح” من الحولي.

أما داخل السوق، تشكل مئات الشاحنات المصطفة فيه والمتقابلة أزقة طويلة تكاد لا تنتهي، كلها محملة بسلالات الأغنام الأكثر طلبا عند البيضاويين كـ”الصردي” و”تمحضيت” و”وبن كيل” و”أبي الجعد”… وبين زقاق وآخر تنتصب خيام، أشبه بمطاعم الأسواق الشعبية، وأخرى للحلاقة وبيع “القنب والسكاكين والشوايات”، إلى جانب خيام لبيع “جلبانة والشعير” وغيرهما من الأعلاف، فضلا خيام “الطب الشعبي” و”الحلاقي” وأصحاب “سورتي مولانا” وباعة الماء و”الديطاي” وأصحاب العربات المجرورة.

في هذا السوق، كان العرض يفوق الطلب، حوالي 5000 شاحنة تصطف في الداخل، والعشرات تنتظر خروج أخرى لآخذ مكانها، والأغنام على أشكالها وأنواعها تراود الناس، والكلمة الأكثر ترددا وقتها بين “الكسابة” و”الشناقة” هي “كل زرع عندو كيالو”.. ذلك أن للزبون هوامش واسعة من الاختيار. إذ بإمكانه أن يقتني كبشه من الشاحنة في الزقاق الأول أو الزقاق رقم 60، وحتى إذا ما لم “يملئ الخروق عينه”، ينتقل خارج السوق، حيت تصطف “الكراجات” في شارع الوحدة الأفريقية أو في الأزقة المتفرعة عنه.. لكن لا يمكن للزبون أن يعود خاوي الوفاض.

في الواقع لا أدري لما استيقظت الآن هذه الصور المحنطة في ملح الذاكرة؟ ولا أدري لما أقلِّبُها في ذهني بنوستالجيا، أو بجرعة زائدة من الحنين؟ هل لأن كثيرين مثلي، يضطرون الآن، بعد إغلاق هذا السوق، إلى السفر خارج الدارالبيضاء، للبحث عن الكبش في الأسواق الشعبية والفيرمات؟ وهل لأنهم يصطدمون هناك بأثمنة تفوق ضعف “المانضة”؟

اليوم، وفي الدارالبيضاء دائما، هناك أسواق قليلة جدا للأغنام المعدة للذبح، أغلبها في الأسواق الممتازة، وبالتالي في غياب هامش للاختيار، حتى ولو كان ضيقا، يضطر المواطنون البسطاء الذين قطعوا عشرات الكيلومترات بحثا عن الأضحية، إلى شراء الكبش بالثمن الذي يريده الكساب أو الشناق، وفي غياب تام لأية مراقبة من شأنها حماية المستهلك.. منهم من يشعرون “بالشمتة”، ومنهم من لفحهم لهيب الأسعار فيعودون إلى عيالهم وكأن على رؤوسهم الطير، على أمل إيجاد شيء في البيت صالح للبيع لجمع المبلغ المطلوب.. ومنهم من يستسلمون للأمر الواقع، ولسان حالهم يقول “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها”.

الآن أتساءل مثل كثيرين، لماذا تم محو سوق الأغنام بحي إفريقيا؟ ولماذا لم يعد إلى سيرته الأولى، على الأقل لتنشيط الحركة الاقتصادية في المنطقة. ذلك أن هذا الفضاء الذي كان يُقام عليه السوق، شاسع بحجم ستة ملاعب كرة قدم أو أكثر.. وبالتالي فهذه الأرض كما يقول العرب القدامى “أرض مَوات”.. فلا المقاطعة غنمت شيئا من محوه من هذه الأرض، ولا المواطن استفاد من خدماته، ولا الدارالبيضاء كسبت شيئا من قرار إغلاقه في وجه الكسابة والمواطنين.. والسؤال المطروح الآن.. هو من المستفيد من قرار محو هذا السوق ومن “سخسخة” البيضاويين؟ والسلام.

*(المنعطف) 12 يونيو 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *