أمضيت أسبوعاً بأكمله في جمع وثائق إدارية لتجديد”بطاقة الإقامة”. جرت العادة أن يجد الناس في الانتقال من إدارة إلى أخرى أمراً مضنياً ومتعباً، لكن الأمر يختلف معي . إذ أجد في الانتقال من إدارة إلى أخرى فرصة للتعرف على بعض الأشياء .لاحظت على سبيل المثال أن الناس تستهويها القصص الطريفة، وفي بعض الأحيان خبايا مهنتنا، وكذلك الحكايات مع شخصيات وازنة في شتى المجالات.
كنت أمرح مع بعض الذين التقيتهم في هذه الإدارة أو تلك. يعتقد بعض البعيدين بأنني إنسان خال تماماً من المرح وسمعت من بعضهم ذلك، وتذكرت عبارة وردت في رواية موسم الهجرة إلى الشمال، تقول “أنت يا مستر سعيد ألا تستطيع أن تنسى عقلك أبداً”. لكن قطعاً ليس لدي أوجه شبه مع مصطفى سعيد بطل تلك الرواية.
من خلال جولة جمع “قفة وثائق إدارية” تذكرت أمراً يبدو ألا علاقة له بالحديث عن الجولة بين الإدارات، وهي رسالة كنت قد كتبتها لإنسانة عزيزة لدي معها حكاية، كانت عذبة، أعذب امرأة عرفتها في حديثها وروحها.
وبما أنني أحرص جيداً على أرشيفي الشخصي، عدت لتلك الرسالة لأقتبس بعض ما كتبت، وأترك لكم تأويل ما تريدون من سطورها.
تبدأ الرسالة كالتالي: “لك كل ما تأملين في الصباحات والنهارات والأمسيات والليالي. فضلت أن أكتب .إذ الكتابة تعبر بدقة عما يمور في دواخلي، وإذ الكتابة حرص شديد على وضع كل حرف وكلمة وجملة وفاصلة ونقطة في مكانها الصحيح.
نحن الآن أمام لحظة صعبة لذلك لنتركها تغوص في أعماقنا.على الرغم من أن الصمت عن الوجع لا يشفيه، أدرك إن من بين مشاكلي أنني شديد الكبرياء .لكن كان لابد من أن أتحدث.لم يكن هناك مجال للإنتظار خاصة أنني لم أكن أتصور أن الأمور أمام جدار.
كل منا يملك اختيار مواقفه ولكن من منا يملك اختيار أقداره.أقول لنفسي الآن ولم تعد هناك جدوى من القول…وأقول لنفسي الآن وقد فات الآوان، أننا بذلنا كل جهد من أجل تثبيت بعض القيم الإنسانية، لكن ذلك كان حلماً جميلاً ، للأسف لم يكن له علاقة بالواقع، وربما لم يكن حلماً قابل للتحقق، لذلك كان لابد في النهاية أن أحزم أمري وأقرر بعد أن أغلقت أمامي كل الطرق المؤدية لتحقيق الحلم، وظني سيبقى المستقبل في الماضي .
أحاسيسي يختلط فيها القلق بالأسى والإحباط، وشيء من الاستغراب والحيرة والشك أيضاً في دنيا الناس هذه ».
ثم ختمت الرسالة بهذه الجملة :سأبقى الرجل نفسه .
*كاتب/صحفي