لن أضيف جديدا إلى ما حكيته سابقا؛ كان الدكتور محمد المعتصم سببا في دخولي عالم الصحافة.
لم تكن “صاحبة الجلالة ” يامات العز ديالها تخطر على بالي كمهنة مستقبلية، كنت أخطط بعد التخرج لأن أكون ضمن أسرة التعليم.
لكن تصريحا للدكتور المعتصم، وقد كان وزيرا مكلفا بالعلاقة مع البرلمان في حكومة الراحل عبد اللطيف الفيلالي، سيقلب وجهتي رأسا على عقب.
سنة 1994 كنت في السنة أولى حقوق، عمري 21 سنة، أتحمل مسؤولية الكاتب العام لفصيل الطلبة الديمقراطيين، في تلك السنة تحدى المعتصم أحزاب “الكتلة الديمقراطية” في أن تثبت أن حكومة عبد اللطيف الفيلالي حكومة غير دستورية.
كنا يوم عيد أضحى، وقد تحمست كثيرا للرد عليه، هكذا أنا منذ صغري: كبرها تصغار.
اعتكفت في برتوشي في سطح العمارة لساعات طوال، كتبت بضع صفحات بخط اليد، قلت فيها إن الحكومة مخالفة لديباجة الدستور التي تتص على أن السيادة للأمة تمارسها مباشرة بالاستفتاء وبطريقة غير مباشرة عبر ممثليها في البرلمان.
ووجود حكومة من خارج البرلمان انتهاك لسيادة الأمة.
اقترح علي الرفيق عبد اللطيف فدواش أخذ المقال إلى مسؤولي جريدة ” أنوال” في الرباط، مفاجأتي الكبيرة أن المقال نشر بعد.يومين في أعلى الصفحة الأولى على يسار ” اللوغو“.
جعلني ذلك نجما شابا في الحزب. وجعلني أيضا أدمن وأتلذذ بالكتابة في صحافة منظمة العمل الديمقراطي الشعبي حتى قبل حصولي على الإجازة.
ومن هناك بدأت بلية “صاحبة الجلالة“.
ينبغي لي الاعتراف أني إن كنت كتبت ذلك المقال بشكل أثار إعجاب وفخر الرفاق، فالفضل في ذلك يعود، من بين آخرين، للدكتور المعتصم نفسه رحمه الله.
في بداية مشوارك الدراسي، إما أن تصادف أساتذة يفتحون لك أفقا واسعا للتكوين والتفكير، أو يجعلوك تائها بلا بوصلة.
سمعة الدكتور المعتصم في مدرجات الجامعة تسبقه، غير أني تعرفت عليه مبكرا وعن بعد من خلال أطروحته حول التقليدانية الدستورية في النظام السياسي المغربي. وأستطيع القول أني حفظت هذه الأطروحة عن ظهر قلب.
وفي كل مرة كان علي أن أعود إليه، في بحث الإجازة حول ” التناوب التوافقي”، وفي تقرير ديبلوم الدراسات العليا المعمقة حول ” المفهوم الجديد للسلطة: حدود التغيير وثوابت الاستمرارية” وعدت إليه في مشروع اطروحة الدكتوراه حول ” إعادة هيكلة الحقل الديني: إشكالات السلطة وضبط المجال“.
لم يكن مجرد استاذ للقانون الدستوري، كان فقيها ضليعا في التيارات العميقة للدستور في ارتباطها بالتاريخ والنسق السياسي المغربي.
وضع أطروحة شاملة جامعة لفهم النظام السياسي المغربي لما فبل دستور 2011.
ومن مكر التاريخ أن استدعي هو شخصيا لهدم هذه الأطروحة. في سياق ” الربيع العربي” ترأس الآلية السياسية للإشراف على تعديل الدستور، دستور 2011 بني على أنقاض تقليدانية أمير المؤمنين في دستور 1996 وما قبله.
مازلت أتذكره وهو يتلو، في عملية مضتية، فصول الدستور الجديد فصلا فصلا عبر شاشة التلفزيون الرسمي.
وكأنه شاهد عيان على نهاية مرحلة دستورية وبداية أخرى. وكانت تلك آخر صوره في المشهد العمومي.
وقد يكون المعتصم أكبر شخصية عمومية عصف بها دستور ” الربيع العربي”. وكأنه وحده من دفع الثمن، استفاد الجميع من الأجواء السياسية لما بعد الدستور الجديد إلا المعتصم.
اختفى في صمت وغياب، حاملا معه الثمن.
ثمن دستور أكبر من نخبته السياسية.
الغريب حقا، أن النخبة السياسية عادت لاعتناق ” التقليدانية الدستورية” ل 1996 وما قبلها أشهرا قليلة بعد دستور نهاية التقليدانية.
خطأ المعتصم أنه وضع ثقته الفقهية الدستورية في نخبة سياسية حزبية غير واثقة من نفسها.
رحم الله المعتصم ورحم الله دستور 2011.
*يونس دافقير /كاتب صحفي