إعداد: إلياس زهدي

حلقة 16

سر امرأة ميتة
غي موباسان (1850 -1893)

 

ماتت المرأة دون ألم وبهدوء، كما يجب أن تموت أي امرأة عاشت حياتها دون أن ترتكب ما قد تلام عليه. كانت مسجّاة في سريرها على ظهرها، مستلقية على ظهرها، مغمضة العينين، بأساريرها الهادئة، وشعرها الأبيض الطويل وقد صُفّف بعناية كما لو أنها اهتمّت به دقائق قليلة قبل وفاتها. وكانت ملامحها من الصفاء بحيث يشعر الناظر إليها بأن روحا طاهرة عاشت في ذلك البدن حياة هادئة نقية وبأن أجلها قد وافاها في سلاسة تامة.

وإلى جانب السرير جثا ابنها، وهو قاض ذو مبادئ صارمة، وابنتها مارغريت، المعروفة باسم الأخت يولالي. وكانا ينتحبان كما لو ان قلبيهما قد انفطرا كمدا. كانت الأم قد سلّحتهما، منذ الطفولة، بمبادىء أخلاقية صارمة ولقنتهما التعاليم الدينية التي لا تعرف الضعف وعلّمتهما الإحساس بالمسؤولية، الذي لا يعرف اللين. وصار الرجل قاضيا وتعامل مع القانون كسلاح ضرب به الضعفاء دون أن تأخذه بهم شفقة. وصارت البنت، التي تأثرت تأثرا كبيرا بالفضيلة التي أحاطت بحياة هذه الأسرة المتقشفة، عروسا للكنيسة من خلال ازدرائها للذكور.

لم يكونا يعرفان عن والدهما الكثير، لكنهما كانا يعرفان أنه جعل حياة أمهما في منتهى التعاسة، دون أن يعرفا تفاصيل إضافية عنه.

كانت الراهبة تقبّل يد أمها بعنف، وكانت يدا بلون العاج الأبيض الذي صُنع منه الصليب القريب من السرير. وعلى الجانب الآخر من السرير كانت يدها الأخرى لا تزال ممسكة بالملاءة، كما كانت عندما قُبضت روحها. وكانت الملاءة لا تزال تحتفط بتجاعيد صغيرة أمارة على تلك الحركات الأخيرة التي تسبق السكون الأبدي.

نقرات خافتة قليلة على الباب جعلت الأخوين الباكيين يرفعان رأسيهما. لقد عاد الكاهن من العشاء. وكان محمرّ الوجه، لاهثا. كان قد حضّر لنفسه مزيجا من القهوة والبراندي ليقاوم الإرهاق الذي كابد في الليالي القليلة الماضية جراء عسر الهضم.

كان يبدو عليه الحزن، الحزن المؤكد الذي يشعر به الكاهن إزاء الموت الذي يمده بأسباب العيش. رسم إشارة الصليب واقترب، بهيئته المهنية، قائلا:
-يا ولداي المسكينان! جئت لأساعدكما في هذه الساعات الأخيرة الحزينة.
ولكن الأخت يولالي قامت فجأة قائلة:
-شكرا لك يا أبتي، ولكني أاخي نفضّل أن نبقى وحدنا معها. فهذه فرصتنا الأخيرة لرؤيتها. ونريد أن نبقى معا، نحن الثلاثة، كما كنا في الصغر.

ولم تتمكن من مواصلة كلامها، فقد غالبها الحزن والدموع.
ودون جلبة، انحنى الكاهن قائلا:
-كما تريدان يا ولداي.
وجثا على ركبتيه ورسم إشارة الصليب وصلى وقام، وغادر بهدوء، متمتما “لقد كانت قدّيسة”.

وبقي الثلاثة وحدهم: المرأة المسجّاة وابنتها وابنها. وكانت دقات الساعة، المخبأة في الظل، تسمع بوضوح. وفاحت من خلال النافذة المفتوحة رائحة القشّ والأشجار ودخل ضوء القمر. ولم يكن يسمع أي صوت آخر، ما عدا نقيق ضفدع أو صيحة حشرة من حين إلى آخر. وبدا أن سلاما غير محدود وحزنا سماويا كانا يحيطان بالمرأة المسجاة، وكأنما قد أحاط بهذه المرأة الميتة هدوء لانهائي، كآبة إلهية، صمت تام يبدو كأنه صدر منها ليلّطف الطبيعة نفسها.

وانتحب القاضي، الذي كان لا يزال جاثيا على ركبتيه وقد دفن وجهه في ملاءات السرير، نحيبا خنقه الحزن:
-ماما، ماما، ماما.
أما أخته الراهبة، التي كانت تضرب جبهتها بجنون على الأثاث الخشبي، فقد أخذت تتشنج، تتقلب وترتعش كما لو كانت في نوبة صرع. وأخذت تنوح:
-يا عيسى، يا عيسى، ماما، يا عيسى!
وأخذ كلاهما يلهثان، وقد اجتاحتهما عاصفة من الحزن.
هدأت العاصفة ببطء وانخرطا في البكاء بهدوء، تماما كحال البحر عندما يحل الهدوء بعد العاصفة.

وبعد وقت طويل نسبيا، قاما ونظرا إلى جسد أمهما الميتة. الذكريات، تلك الذكريات البعيدة، ذكريات الأمس العزيزة وذكريات اليوم المؤلمة جدا، حضرت بكل تفاصيلها الصغيرة المنسية، تلك التفاصيل الصغيرة الحميمية المألوفة التي تعيد إلى الحياة من رحل عنهما. وشرعا يُذكّران بعضهما البعض بالظروف الأخرى، الكلمات، الابتسامات، ترنيمات الأم، التي لم يعد بإمكانها أن تتكلم إليهما. لقد رأياها مرة ثانية سعيدة وهادئة. وبدآ يتذكران أشياء قالتها وكل حركة صغيرة من يدها، اليد التي غالبا ما كانت تستخدمها عند التشديد على شيء مهم.

لقد أحباها كما لم يحباها أبدا من قبل. وأدركا عمق حزنهما واكتشفا كم سيجدان نفسيهما وحيدين.
لقد كانت سندهما، دليلهما، كل شبابهما، كل الجزء الأفضل من حياتهما، الذي كان يختفي. كانت بمثابة الرابط الذي يربطهما بالحياة، أمهما، الرابط الذي يصلهما بأجدادهما، ذلك الرابط الذي سيفتقدان. لقد أصبحا الآن كائنين منفردين، وحيدَين، لم يعد بإمكانهما النظر إلى الوراء.

قالت الراهبة لأخيها القاضي:
-تتذكر كيف كانت ماما تقرأ دائما خطاباتها القديمة؛ إنها كلها موجودة هناك في ذلك الدرج. دعنا نقرأ، بدورنا، تلك الخطابات، دعنا نعشْ حياتها كلها طوال هذه الليلة بجانبها! سيكون الأمر مثل طريق يؤدي إلى الصليب، بمثابة تواصل مع الأم، مع أجدادنا الذين لم نعرفهم أبدا، لكن الخطابات هناك وقد كانت غالبا ما تتحدث عنها، هل تذكر ذلك؟

وأخرجا من الدرج حوالي عشرة رزم صغيرة من الورق الأصفر. كانت محزومة بعناية ومرتبة الواحدة بجانب الأخرى. ألقيا بتلك الآثار القديمة على السرير واختارا واحدا منها، وكان مكتوبا عليه “الأب”. فتحا الخطاب وأخذا في قراءته.
كان أحدَ تلك الخطابات من الطراز القديم الذي يجده المرء في أدراج الأسرة القديمة، تلك الرسائل التي تفوح منها رائحة قرن آخر. كانت بداية الخطاب “عزيزتي”، وآخر “فتاتي الصغيرة الجميلة”، وخطابات أخرى بدايتها “طفلتي العزيزة”، أو “ابنتي” العزيزة”. وفجأة، بدأت الراهبة تقرأ بصوت مرتفع، تقرأ عن المرأة الميتة تاريخها الكامل، كلَّ ذكرياتها الحميمية.
ظل القاضي، الذي كان يسند مرفقه على السرير، يستمع وعيناه مثبتتان على أمه. كان الجسد الساكن، بلا حراك، يبدو سعيدا.

توقفت الراهبة “لولالي” ثم قالت فجأة:
-ينبغي أن توضع هذه الرسائل معها في القبر؛ ينبغي أن تستخدم ككفن وأن تُدفن فيها.
ثم تناولت رزمة أخرى لا تحمل عنوانا. وبدأت تقرأ بصوت صارم:
“معبودتي، أحبك بشدة. إنني أعاني، منذ أمس، من عذاب ذكرانا اللعينة التي تطاردني. إنني أحس بشفتيك على شفتَي، بعينيك في عينَي، بصدرك على صدري. أحبك، أحبك! لقد أفقدتني صوابي. وذراعاي مفتوحتان، ألهث، تحرّكني رغبة جامحة في احتضانك مرة ثانية. روحي كلها وجسمي يناديانك، يريدانك. إنني احتفظ في فمي بطعم قبلاتك”…

انتصب القاضي واقفا. وتوقفت الراهبة عن القراءة. خطف منها الرسالة وأخذ يبحث عن التوقيع. لم يكن هناك توقيع على الرسالة سوى هذه الكلمات “الرجل الذي يعبدك”، الاسم “هنري”. كان اسم أبيهما ريني وليس هنري، معنى ذلك أن الرسالة لم تكن من الأب. عند ذلك، أخذ الابن يفتش بيده خلال رزمة الخطابات. وتناول خطابا وأخذ يقرأ
“لم أعد أستطع العيش بدون ملاطفاتك ومداعباتك”.
قام منتصبا وكان صارما مثلما كان عندما يجلس على المقعد. ثم نظر إلى المرأة الميتة دون تأثر.
أما أخته الراهبة، التي كانت منتصبة مثل تمثال والدموع ترتعش في زوايا عينيها، فكانت تنظر إلى أخيها، تنتظر. ثم عبرت الحجرة ببطء وذهبت صوب النافذة. وقفت هناك وهي تحملق إلى الخارج في الليلة الظلماء.
عندما استدار كانت الراهبة يولالي، التي كانت عيناها جافتين آنذاك، لا تزال واقفة قرب السرير. طأطأت رأسها إلى الأسفل.
خطا القاضي إلى الأمام وتناول الخطابات بسرعة وألقى بها، بطريقة فوضوية، في الدرج، ثم أسدل ستائر السرير على جسد أمه.

عندما أحال ضوء النهار الشموع التي كانت على الطاولة إلى لون شاحب، ترك الابن الكرسي ذا المسند، ودون النظر ثانية إلى الأم، التي أصدر حكمه عليها وهو يقطع العلاقة التي وحّدتها بابنها وابنتها، ثم قال ببطء:
-لنخرج من هنا يا أختاه!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *