إعداد: إلياس زهدي

حلقة 13

في غابات الشمال* (2/2)
جاك لندن (1876 -1916)

ارتجف فان برنت ومسد ظاهر يدية بنشاط. وسأله رفيقه ببطء
-إذن فقد حسبوني ميتا؟
-لأنك لم تعد، لا أنت ولا أصدقاؤك.
أطلق فيرفاكس ضحكة مجلجلة وقال
-آه، لقد نسيت.
-لماذا لم تعد؟
-أظن لعدم رغبتي في ذلك أولا، وثانيا، لأني كنت أعيش ظروفا قاهرة.. لقد كان تانتلانتش مصابا في إحدى ساقيه عندما التقيته أول مرة. كان يعاني من كسر لعين. وقد عالجتة حتى شُفي. ومكثت بعض الوقت لأستردّ قواي. كنت أول رجل أبيض يراه في حياته! وبالطبع، بدوت له حكيما جدا واقتنع أبناء قبيلته بأن علمي لا حدود له. لقد علمتهم، على سبيل المثال، فنّ التكتيك العسكري وساعدهم ذلك على إخضاع قرى القبائل الأربع الأخرى، التي لم ترها بعد، وأصبحوا أسياد المنطقة. وجعله ذلك، بالطبع، يقدّرني كثيرا، بحيث لم يعد يسمح لي بتركهم. لقد أكرموا وفادتي، في الواقع، وعينوا حراسا علي يراقبوني ليلا ونهارا. ثم بدأ تانتلاتش يغريني. وبما أن بقائي معهم من عدمة لم يعد مهما بالنسبة إلي، فقد وطنت نفسي على البقاء.
-كنت أعرف شقيقك في فرايبورغ. أنا فان برنت.
مد فيرفاكس يده إلى الأمام وصافحة. قال:
-إذن أنت صديق بيلي، أليس كذلك؟ بيلي المسكين، لقد كان يتحدث عنك كثيرا.
وتابع، وهو يلقي بنظرة شاملة على المشهد البدائي ومصغيا لحظة إلى نبرات صوت المرأة النادبة
-يا له من مكان غريب للقاء.
-زوجها قتله دبّ ولم تستطع تحمّل الصدمة.
وكشر فان برنت تكشيرة تنمّ عن الامتعاض وقال:
إنها حياة بدائية.. أظن أن طعم الحضارة سيكون لذيذا بعد اغتراب خمس سنوات.. ما رأيك؟
واكتسى وجة فيرفاكس بتعبير بليد:
-لا أدري بالضبط، إنهم على الأقل أناس صادقون ويعيشون على فطرتهم. إنهم بسطاء بكيفية تثير الدهشة، خالين من العقد تماما وواضحين في التعبير عن عواطفهم. لا يكذبون إذا أحبّوا أو خافوا أو غضبوا أو شعروا بالسعادة. قد تكون حياتهم أقرب الى حياة الوحوش لكنها حياة من السهل أن تُعاش. لا غزل ولا خلاعة. إنْ أحبّتك امرأة فلن تتردد في إخبارك بذلك وإن كرهتك ستقول لك ذلك. ثم إذا شعرت برغبة في ضربها فبإمكانك أن تفعل ذلك.. لكن المهم أنها تعرف بالضبط ماذا تقصد أنت من وراء ذلك وأنت تعرف بالضبط ماذا تقصد هي. لا وجود للأخطاء، لا وجود لسوء الفهم. هذه الحياة تسحرني، بعد أن مللت من حمى الحضارة المتقطعة. هل تفهم ما أعني؟

واصل الحديث بعد لحظة صمت:
كلا، إنها حياة جيدة جدا، جيدة بالنسبة إلي على الأقل، وأنوي البقاء عليها.
طأطأ فان برنت رأسة وراح يفكر. طفت فوق محياة ابتسامة غامضة. ل”ا غزل ولا خلاعة ولا سوء فهم”.. كان فيرفاكس يعاني من صدمة هو الآخر، لأن دُبّا آخر كان قد أنهى حياة أميلي ساوثويذ بالصّدفة. ولم يكن هذا الدب سيئا أيضا، لأنة كان يُدعى كارلتون ساوثويذ! قال فان برنت بتروّ:
-لكنك ستأتي معي.
-كلا، لن أفعل!
-بل ستفعل!
قال فيرفاكس بحزم:
-هنا الحياة سهلة جدا. أفهم كل شيء وهم يفهمونني. الصيف والشتاء يتعاقبان كتعاقب نور الشمس عبر أوتاد السياج والفصول لطخة من النور والظل والزمن ينقضي والحياة تنقضي، ثم لا يبقى شيء غير العويل داخل الغابة والظلام. أصغِ!
ورفع يدة إلى الأعلى وصعد الخيط الفضي لأحزان المرأة عبر الصمت والسكون. وانضمّ فيرفاكس إلى هذة الترنيمة الحزينة، وراح يردد بصوت خافت
-أو- و- و – و – و- و- و- هاا- ها- آه- ها- آه- ه- ه، أو- و- و – و – و- و- و هاا- ها- آه- ها- آه- ه… ألا تستطيع سماع ذلك؟ ألا ترى كيف تندب تلك المرأة وتنشد نشيد الحداد؟ البياض يجلل ضفائري بالوقار وفرائي على بساطته يغلّفني ببهاء. عدّة صيدي الى جانبي، فمن ذا الذي يشك في أنني لست بخير!؟
نظر إليه فان برنت ببرود وقال
-أنت أحمق. إن خمس سنوات من العيش في هذا المكان كافية لجعل المرء يفقد عقله، أنت في وضع مريض وغير صحي تماما. وإضافة إلى ذلك فإن كارلتون ساوثويذ قد مات.

ملأ فان برنت غليونه بالتبغ وشرع يدخّن. وراقب، خلسة وبمهارة حرفية تقريبا، عينَي فيرفاكس اللتين لمع فيهما ضوء غريب بعدما سمع بخبر وفاة كارلتون. هبّ واقفا لحظة ليرخي عضلات جسدة المشدودة، ثم جلس وقد اعترت وجهَه مسحة كآبة وقلق. في هذه الأثناء صاح مايكل الطباخ بأن الطعام قد أصبح جاهزا. لكن فان برنت طلب منه أن يتريث قليلا. كان الصمت قد ران ثقيلا على المشهد. وشرع فان برنت يحلل الروائح العديدة التي كانت تملأ الجو من حوله. الروائح العطرية المنبعثة من الغابة والروائح العفنة المتصاعدة من قلب التربة والنباتات المتفسخة، المختلطة بعبير إبر وأكواز الصنوبر والنكهة العطرية لأدخنة المخيم العديدة.
رفع فيرفاكس رأسه مرتين، لكنه لم يقل شيئا، ثم قال، أخيرا:
-وماذا عن أميلي؟
-إنها أرملة منذ ثلاث سنوات ولا تزال كذلك.
سادت فترة أخرى من الصمت الطويل، عاد بعدها فيرفاكس إلى الحديث، بابتسامة ساذجة:
-أظن أنك على حق يا فان برنت، سأذهب معك.

وضع فان برنت يده على كتف فيرفاكس وقال:
-كنت أعرف أنك ستفعل. بالطبع، لا يمكن للمرء أن يجزم، لكني أتخيل نفسي في مكانها، ماذا يمكن لامرأة في مثل وضعها أن تفعل، خصوصا بعد أن تقدم البعض لطلب يدها؟
قال فيرفاكس مقاطعا:
-متى سترحل؟
-حالما ينال الرجال قسطا يسيرا من النوم. هذا يذكّرني بأن مايكل قد بدأ يغضب، هيا نتناول شيئا من الطعام.
وبعد العشاء، وبعدما التفّ المرشدون ورجال كري في بطانياتهم وشرعوا في الشخير، لبث الرجلان جالسين بجانب النار المحتضرة.

كان ثمة الكثير من الشجون، شجون الحرب والسياسة والاستكشافات؛ شجون الرجال ومشاغل الحياة؛ شجون الأصدقاء المشتركين؛ شجون الزواج؛ شجون الموت.. باختصار، كل ما حدث خلال خمسة أعوام من الغياب.
-وهكذا حُشر الأسطول الإسباني في سانتياغو.
عندما أنهى فان برنت جملته، تقدمت امرأة شابة بخطى وئيدة نحوهما ووقفت بجانب فيرفاكس. نظرت الى وجهه نظرة خاطفة ثم أخذت تحدّق في وجه فان برنت بعينين مليئتين بالقلق. قال فيرفاكس موضحا، وقد اكتست وجهَه حمرة ارتباك صادقة:
-إنها ابنة تانتلاتش، بمثابة أميرة لدى قومها وواحدة من المغرَيات التي قُدّمت لي لتشجيعي على البقاء.. ثوم، دعيني أعرّفك بصديقي فان برنت.
مد فان برنت يده، لكنّ المرأة لم تحرك ساكنا وظلت تنظر إليه بجمود وتصلب، نظرات حادة، مباشرة ومفعمة بالأسئلة الحائرة.
ضحك فيرفاكس قائلا:
-إنها تفهم الكثير، إنه لقاؤها الأول، كما تعرف. لكن أكمل حديثك لي عن ورطة الأسطول الإسباني في سانتياغو.
قرفصت ثوم بجانب زوجها، بلا حراك، كتمثال من البرونز. فقط عيناها كانتا تومضان بين وجه وآخر في بحث دائب. وشعر أيفيري فان برنت، وهو يتحدث بلا انقطاع، بإحساس متزايد من القلق نتيجة نظراتها الجامدة المسلطة إليه. وعندما كان يصف مشاهد المعارك الدامية، كان يشعر بنار تلك العينين السوداوين تحرق وجهه، ما كان يجعله يتعثر ويرتبك وهو يحاول الإمساك بخيط القصة من جديد. وكان فيرفاكس، الذي كان يجلس شابكا يديه على ركبتيه ومستغرقا في تدخين غليونه، يحثه على الاستمرار في الكلام كلما لمس منة ترددا، لكي يستعيد صورة العالم الذي ظن أنه قد نسيه.

مرت ساعة أو ساعتان وقام فيرفاكس على مضض وقال:
-قلت إن كونجي قد حوصر، أليس كذلك؟ حسنا، انتظرني دقيقة فقط.. علي الذهاب لزيارة تاتلنتش، يحب التحدث إليك وسأرتّب اللقاء بينكما بعد الفطور. سيكون ذلك جيدا، أليس كذلك؟
ثم تركهما وغاب وسط أشجار الصنوبر. ووجد فان برنت نفسه وحيدا في مواجهة عينَي ثوم الساخنتين. وفكر في أن سنها الآن يقارب العشرين عاما، أي أنه قبل خمس سنوات لم يكن عمرها أكثر من خمسة عشرة سنة. إنها مخلوقة رائعة ويُفترض فيها، كفتاة تنتمي إلى شعوب الإسكيمو، أن يكون لها أنف مفلطح أو عريض، لكنها لا تملك هذا ولا ذاك، لأن أنفها أعقف وله منخران دقيقان وجميلان كمنخري فتاة بيضاء. لا تخف منها يا فان أيفيري برنت، إنها لا تعضّ! ليست سوى فتاة عادية ولها حظ من الجمال. جمالها أقرب إلى جمال الشرقيات منه إلى جمال بنات الإسكيمو. العينان كبيرتان والمسافة بينهما شاسعة ولا تملكان من الانحراف الذي يميز عيون المنغوليات إلا القليل. ثوم أنت شاذة عن القاعدة، أنت لا تنتمين إلى هذا المكان الذي تقطنه قبائل الإسكيمو، حتى لو كان والدك واحدا منهم. إلى أي أصول تنتمي أمك أو جدتك؟ أنت جميلة يا ثوم، لكن جمالك بارد ومتجمد. وفي دمائك تجري حمم ألاسكا. كفي عن النظر إلي على هذا النحو، أرجوك.
ثم ضحك وهبّ واقفا. لقد أربكته نظراتها الملحاحة. وكان ثمة كلب يجوس مفتشا بين أكياس الطعام عن شيء من الأكل. سيقوم بنهره وطرده من المكان ووضع الأكياس في مكان آمن إلى حين عودة فيرفاكس. لكن ثوم مدت ذراعها وأوقفته قائلة، بنبرة من التحدي وبلكنة أهل الدائرة القطبية، التي تختلف قليلا من مكان إلى آخر، من منطقة غرينلاند إلى منطقة بوينت بارو، أنت؟ أنت؟…
وأكملت تعبيرات وجهها السريعة ما كانت كلمة “أنت” تحمل من دلالات ومطالب متعلقة بسبب وجوده هنا وعلاقته بزوجها وكل شيء.
أجابها، بلكنتها ذاتها، محركا يده في اتجاه الجنوب:
-نحن أخوان، أنا وزوجك.
هزت رأسها وقالت:
-أنا غير مرتاحة لوجودك هنا.
-سأغادر بعد ليلة واحدة.
قالت بصوت يرتجف لهفة:
-وماذا عن زوجي؟
هز فان برنت كتفيه بلامبالاة وأحس بداخله بشعور خفي من العار، عارٍ غير مشخصن وغضب تجاه فيرفاكس. وأحس بالدماء الحارة تتدفق إلى وجهه وهو ينظر إلى وجه هذه الشابة المتوحشة. لقد كانت مجرد امرأة، امرأة تحتوي على كل التفاصيل المألوفة التي تحدد معنى كلمة امرأة وتعيد تمثيل القصة القديمة القذرة نفسها، مرة تلو الأخرى، بدءا من حواء وانتهاء بآخر عشيقة.
وراحت تردد، بإلحاح وقد اِسودّ وجهها من الانفعال، وقد ثبَتت عيناها اللتان أطلت منهما تلك الرقة القاسية لروح المرأة الأبدية، الأنثى الزوجة:
-زوجي! زوجي! زوجي!
-ثوم..
قال، بالإنجليزية وبصوت وقور:
-لقد وُلدتِ في غابة نورثلاند وأكلتِ السمك واللحم وتحمّلت الصقيع والمجاعة وعشت حياة بسيطة طوال عمرك. ثمة أشياء كثيرة، وهي في الواقع ليست بسيطة، لا تعرفينها ولا تستطيعين أن تفهميها. أنت لا تعرفين ما معنى أن يتوق المرء إلى أماكن اللهو البعيدة، إنك لا تستطيعين أن تفهمي معنى أن يشتاق المرء إلى امرأة جميلة من جنسه، والمرأة التي أعني جميلة، يا ثوم، جميلة إلى حد النبل. لقد كنت طوال حياتك زوجة لهذا الرجل وقد كرّست كل ما لديك من أجل راحته، لكنّ كل ذلك لا يكفي بالنسبة إليه، لأن كل ما لديك قليل جدا وشديد السذاجة. قليل وساذج جدا، وهو رجل غريب. وأنت لم تعرفيه على حقيقته ولن يكون بوسعك أن تفعلي ذلك أبدا، لأن هذه هي مشيئة الأقدار.. إنك تمسكينه بين ذراعيك، لكنك لم تتمكني من الإمساك بقلبه، إنه رجل ذو فصول غير واضحة وأحلام ذات نهايات بربرية؛ أحلام وغبار أمنيات كل ما يمثّل هذا الرجل لك. لقد كنت تمسكين بصورة وتقبضين على ريح، لقد منحت نفسك لرجل لكنك كنت ترقدين مع شبح.. وأنا لا أحب يا ثوم أن أرى جون فيرفاكس يصحو بعد فوات الأوان ليجد إلى جانبة ليس تلك التي مجدت الشمس شعرها بلونها الذهبي، بل ضفائر سوداء لفتاة منسية في غابات الشمال.
ورغم أنها لم تفقه شيئا في حديثه، راحت تصغي إليه باهتمام بالغ، كما لو أن وجودها نفسه يعتمد على ما كان يفوه به من كلمات. ومن بين جميع الكلمات التي قال تشبث عقلها بكلمة واحدة وهي اسم زوجها “فيرفاكس” فبدأت تصرخ بهذا الاسم بقوة، بلغة الإسكيمو، قائلة:
-نعم! نعم! فيرفاكس! زوجي!
-أيتها الحمقاء المسكينة، أنّى له أن يكون زوجك؟
لكنها لم تفهم لسانة الإنجليزي وحسبت ذلك استخفافا منه بها فتملّكها غضب عارم وبدت له كما لو أنها كانت تستعد للانقضاض عليه مثل لبؤة شرسة. فأخذ يدمدم في نفسه بصوت خافت وينظر إلى لهيب الغيظ الذي اشتعل في حنايا وجهها، يخبو وينطفئ، مخلفا وراءه ذلك الوهج اللامع الذي يكتسي عادة وجه امرأة مهيضة الجناح لا تملك من أمرها غير التوسل والاستعطاف.
قالت بصوت رقيق
-إنه رجلي، الرجل الوحيد في حياتي، ولا يمكنني اتخاذ غيره بعلا ولا يمكنه، هو أيضا، أن يتركني ويرحل.
صاح لي فان برنت، بصوت حاد ينوس بين الغضب والشعور بالعجز عن إيصال ما يريد:
-من قال إنه سيتركك ويرحل؟!
قالت، بصوت خافت، موشى بالدموع:
-أنت من يقرر إن كان سيتركني أم لا.
رفس فان برنت جمر الموقد المشتعل بقوة وجلس على الأرض.
-أنت من تُقرر بقاءه أو رحيله، إنه زوجي، زوجي أنا من دون جميع النساء. أنت كبير وقوي وليس بوسع امرأة ضعيفة مثلي مجاراتك. فانظر إليَ بعين العطف.. أتوسل إليك وأركع بين قدميك، لأنك أنت من سيقرر مصير حياتي، أنت وحدك.
قال فان برنت، وهو يرفع جسدها المنبطح المنكسر من على الأرض بخشونة:
-انهضي! أنت امرأة ولا يليق بك التمرغ في تراب هذا المكان أو غيره ولا يليق بك أيضا أن تركعي أمام أي رجل، مهما كان!
-إنه رجلي.
فصاح فان برنت، بصوت مفعم بالتأثر:
-إذن فليسامح الرب جميع الرجال!
لكنها ظلت تردد، متوسلة على نحو متكرر:
-إنه رجلي، إنه رجلي.
أجاب فان برنت:
-إنه أخي.
-أنا بنت الزعيم تاتلانتش، وهو زعيم خمس قبائل. وسأطلب منه أن يبحث لك عن أفضل امرأة من بنات هذة القبائل الخمس، حتى يتسنى لك البقاء هنا بجانب أخيك.
-ساغادر بعد ليلة واحدة.
-وماذا عن زوجي؟
-إنة قادم الآن، اُنظري.

وانبعث من وسط ظلام أشجار الصنوبر الداكنة صوت فيرفاكس، مترنما.
وكما يطفيء بحر الضباب وهج النهار، أطفأت ترنيمته النور في وجهها. قالت:
-إنه يغنّي بلسان بني قومه، بلسان بني جلدته.
ثم استدارت، برشاقة حيوان صغير، ودخلت الغابة.
قال فيرفاكس عندما وصل:
-لقد تم كل شيء وسيستقبلك جلالته بعد الفطور.
سأل فان برنت:
-هل أخبرته؟
-كلا. لن أخبره حتى يحين موعد الرحيل.
ألقى فانت برنت نظرة حزينة على رفاقه الغارقين في النوم وقال:
-سأكون سعيدا لو تمكنّا من قطع مائة فرسخ على طريق عودتنا بعيدا عن هذا المكان.

رفعت ثوم سجف خيمة والدها المصنوعة من الجلد. كان ثمة رجلان يجلسان معه ونظر الثلاثة إلى وجهها باهتمام عاجل. لكن وجهها لم ينطق بشيء وهي تدخل وتجلس على الأرض بهدوء ودون كلام. وطرق تانتالاتش بمفاصل أصابعه على نصل رمح كان يضعة متصالبا فوق ركبتيه وتطلّع، بكسل، إلى عمود النور الذي شق طريقه عبر ثقب في نسيج الخيمة ورسم خيطا لامعا عبر فضاء الخيمة الداكن. عن يمينه كان يجلس شوغونغات، عرّاف القبيلة أو شامانها (واعظُها الديني). كان كلا الرجلين قد بلغا من العمر عتيا وكانت ظلال السنين الطويلة التي عاشا معا تتراقص في عيونهما الحزينة. لكنْ في الجهة المقابلة، جلس كين، وهو محارب شاب يتمتع بحظوة كبيرة لدى الزعيم. كان يقظا وسريع الحركة وكانت عيناة السوداوان تتنقلان بسرعة خاطفة من وجه إلى آخر بسيماء واضحة من اليقظة والتحدي.
ران الصمت على المكان وتتخلله، بين الحين والآخر، ضجة عابرة كانت تنطلق من المخيم، تخالطها صيحات الأطفال الحادة، النائية، التي كانت كان تحملها الرياح من بعيد إلى داخل الخيمة. بعد حين، والجميع جالسون في حضرة الصمت، دسّ كلب رأسه الى داخل الخيمة وجعل ينظر في وجوههم بعينين ذئبيتين وشدق مفتوح عن أنياب عاجية يتخللها لعاب لزج. كان ينتظر إشارة منهم تدل على السماح له باحتلال حيز صغير في المكان. وبعد أن شعر بأنه لا يمكنه الظفر بشيء من هذه الوجوه الجامدة، المغلفة بالصمت، أطلق زمجرة خفيفة على سبيل التجربة، في محاولة لجس النبض، لكنه أيقن بعد ذلك بلاجدوى ما يفعل، فطأطأ رأسه وعاد من حيث أتى.
تطلع تانتلاتش الى ابنته وقال ببرود:
-كيف تسير الأمور بينك وبين زوجك؟
أجابت ثوم قائلة:
-يترنم بغناء غريب، وثمة نظرة جديدة تغطي وجهه.
-إذن، فقد تحدث إليك؟.
-كلا. لكن ثمة نظرة جديدة تغطي وجهه ونور جديد في عينيه، إنه لا يفعل أي شيء سوى الجلوس بالقرب من نار الموقد والحديث مع القادم الجديد دون انقطاع.
في تلك اللحظة أخذ شوغونغات يهمس في أذن سيده ومال كين بجسده إلى الأمام ليسمع ما يقال. لكن ثوم واصلت الحديث:
-ثمة شيء يناديه من بعيد، وهو لا يفعل شيئا سوى الجلوس والإصغاء إلى هذا النداء والرد عليه بالترنم والغناء بلسان قومه.
ومرة أخرى، همس شوغونغات في أذن الزعيم ومد كين عنقه إلى الأمام متنصتا على ما يقولان وتوقفت ثوم عن الكلام حتى أومأ لها أبيها بمواصلة الحديث. قالت ثوم:
-ليكن معلوما لديك يا تانتلانش أن طيور الوز البري والبجع والبط الصغير المطوق تولد هنا، في هذه الأراضي المنخفضة، لكنها تهاجر من موطنها قبل حلول الصقيع إلى أماكن مجهولة. ولْتعلم، أيضا، أنها تعود دائما مع عودة الشمس إلى الأرض، حين تتحرر مجاري الأنهار من قبضة الجليد. إنها تعود دوما إلى مواطنها الأصلية لكي تستمر الحياة في السير على نهجها القديم. إنه نداء أرضها الأم، ولا مفر لها من تلبية ذلك النداء. والآن، ثمة أرض أخرى تنادي ونداؤها هذا موجَّه لزوجي، إنها الأرض التي ولد عليها، أرضه الأم، وهو الآن يفكر في لتبية نداء أمه، رغم أن ذلك لا يغير حقيقة إنة زوجي، ملكي أنا قبل كل النساء.
قال شوغونغات، بصوت ملحاح تتخلله نبرةُ تهديد:
-هل هذا حسن يا تانتلانتش؟ هل هذا حسن في رأيك؟
صاح كين بوقاحة:
نعم، حسن، إنه نداء الأرض لأبنائها. وكما تعرف فإن كل أرض تنادي أبناءها للعودة إلى أحضانها من جديد. وكما هو حال الوز البري والبجع وصغار البط المطوق، كذلك حال هذا الرجل الغريب الذي حل بين ظهرانينا حينا من الدهر، والآن يتوجب عليه الرحيل. وليس ذلك وحده، فثمة نداء آخر يدعو هذا الرجل إلى الرحيل، إنه نداء النوع الواحد، إنه نداء بنات جنسه له. فكما يتزاوج الوز مع الوز ولا يتزاوج مع البط الصغير المطوق، كذلك هو حال هذا الرجل الغريب، الذي ليس من المستحسن أن يتزاوج مع نساء قبائلنا. لذلك أرى أن الرجل يجب أن يرحل عنا ويذهب مع قومه إلى بلاده الأصلية.
أجابت ثوم:
-هذا الأمر يخصني وحدي، لأنه رجلي، رجلي أنا، وإنه لرجل عظيم.
رفع شوغونغات رأسه وقد أحس بفورة نشاط مفاجئة وقال:
-لقد أحسنت القول يا ثوم، نعم، إنه رجل عظيم، لقد منح ذراعك القوة يا تانتلاتش وجعلك مهاب الجانب وصار جميع من في البلاد يرتعد خوفا من مجرد ذكر اسمك. لقد فرض احترامك وهيبتك على الجميع، إنه حكيم وعاقل ولا غنى لنا عن حكمته وعقله، لقد أفادنا كثيرا، وبذلك فنحن مدينون له بالكثير، مدينون له لحيلته الواسعة في فن الحرب، مدينون له لأنة علّمنا أسرار الدفاع عن قبيلتنا وقريتنا والاندفاع داخل الغابة، علمنا كيف نجعل الخوف يشلّ إرادة الخصم في مجالس الحرب بالكلمات فقط وبالوعود الغليظة، علمنا كيف نجمع الطرائد وكيف نصنع الفخاخ وكيف نحفظ الطعام ونعالج المرضى وجرحى الحرب والمصابين. لا تنس يا تاتنتلانتش أنك بنفسك كنت رجلا عجوزا وعليلا لا حول لك ولا قوة حتى جاء إلينا هذا الغريب وشفاك من علتك. لقد كنا نهرع إليه دوما إذا استعصى علينا أمر ما، لأنه بحكمته الواسعة كان يجعل الأمور تبدو أكثر وضوحا وسهولة. وليست هذة النهاية، فستواجهنا مثل هذه المسائل العويصة من جديد في المستقبل، سنحتاج من أجل حلها إلى مشورته السديدة وإلى حكمته، لذلك لا يسعنا التخلي عن هذا الرجل وليس من حسن التدبير أن ندعه يرحل!..

واصل تانتلانتش الطرق بأنامله على نصل الرمح وتظاهر بأنه لم يسمع شيئا. وتفرست ثوم في وجه أبيها بحثا عن علامة تأييد تشد أزرها، لكنها لم تعثر على شيء. أما شوغونغات فقد بدا عليه أنه قد انكمش وتقلص، مستسلما لعبء سنين حياتة الطوال، الذي هبط على كاهله من جديد.
وضرب كين صدره ببسالة وقال:
-لا أحد يصطاد نيابة عني. أنا أصطاد طرائدي بنفسي. أنا سعيد بالعيش لأني أصطاد طرائدي بنفسي. عندما أزحف خلال الثلج لاصطياد الموظ (الأيل) الأعظم أكون سعيدا. وعندما أسحب قوسي، هكذا بكل قوتي، وأدفع السهم شرسا وسريعا في اتجاه القلب، أكون سعيدا. لن يكون طعم لحم الطرائد لذيذا إن لم تكن تلك الطرائد طرائدي. أنا سعيد بالعيش، سعيد بمكري وقوتي، سعيد بكوني أنا من أقوم بأعمالي بنفسي. وهل ثمة سبب للعيش أكثر من ذلك؟ لماذا أعيش إذن إن كنت لا أبتهج بنفسي وبأفعالي التي أقوم بها بنفسي؟ وبسبب بهجتي وسعادتي بنفسي أنطلق لاقتناص الطرائد ولصيد السّمك. ولأني أنطلق للقنص ولصيد السمك تزداد حيلتي وقوتي. إن الرجل الذي يمكث في الكوخ قريبا من نار الموقد لا يصبح ماكرا ولا قويا. ولن يجعله لحم طرائدي سعيدا ولن تكون للبهجة مكان في حياته. إنة لا يعيش. ولهذا أقول إن على هذا الغريب أن يرحل. إن حكمته لا تجعلنا أكثر حكمة. وإن كان ماكرا، فلا حاجة لنا أن نكون ماكرين. نحن نقتات على لحم طرائده، لذلك فهي بلا طعم. نحن نتبجح بقوته، لكن قوته لا بهجة لها. نحن لا نعيش عندما يصنع هو الحياة لنا. تسمن أجسادنا ونصبح كالنساء ونخشى العمل وننسى كيف نؤدي أعمالنا بأنفسنا.. دع الرجل يذهب، يا تانتلاتش، حتى يتسنى لنا أن نصبح رجالا! أنا كين، أنا رجل، يصطاد طرائده بنفسه!

نظر إليه تانتلانتش نظرة تبدّى فيها كل فراغ الأبدية وانتظر كين بفارغ الصبر أن يصدر قرارا؛ لكن شفتيه لم تتحركا. ووجّه الزعيم العجوز نظراتة صوب ابنته. فقالت:
-إن ما يمنح المرء لا يمكنه أن يستردّه. لقد كنت مجرد فتاة صغيرة عندما حل بيننا هذا الرجل الغريب، الذي أصبح زوجي الآن. ولم أكن قد عرفت الرجال قبله ولم أكن أعرف ما يصنع الرجال، لأن قلبي كان يهفو إلى اللهو واللعب كبقية الفتيات الصغيرات، حتى ناديتني أنت، يا تانتلانتش، أنت ولا أحد غيرك، ودفعت بي دفعا إلى أأحضان هذا الرجل الغريب. أنت، يا تانتلانتش، وليس غيرك، لقد منحتني لهذا الرجل ومنحت الرجل لي، إنه زوجي، بين ذراعَي كان ينام ولا يمكن لأحد انتزاعه من بين ذراعي!
تدخل كين بسرعة قائلا:
-يا تانتلانتش، حسنٌ أن يتذكر المرء أن ما يُمنح لا يمكن استرداده.
اعتدل شوغونغات في جلستة وقال:
-من فمك الفتي، يا كين، تخرج كلماتك الفتية. أما بالنسبة إلينا، يا تانتلانتش، فنحن كبار ونفهم. نحن، أيضا، نظرنا في عيون النساء وشعرنا بدمائنا تلتهب برغبات غريبة. لكن برد السنين حل فينا وعرفنا حكمة التشاور وألمعية اليد والرأس الباردين، وعرفنا أن القلب الساخن يكون أكثر سخونة وعرضة للاندفاع والعجلة. نحن نعرف أنّ كين مغرم بعينيك ونعرف أن عهدا قد قُطع منذ الطفولة بأن تكون ثوم له. لكننا نعرف أنّ نمط حياتنا قد تغيّر بعد مجيء الرجل الغريب. وبفضل حكمتنا ورغبتنا في الصالح العام ضاعت ثوم من كين وأُخلف الوعد.
توقف الشامان العجوز عن الكلام ونظر مباشرة إلى المحارب الشاب:
-ولتعلم أني، أنا شوغونغات، من أشار بذلك.
قال كين مقاطعا:
-وأنا كذلك لم آخذ إلى سريري امرأة أخرى وكنت أوقد ناري بنفسي وأعدّ طعامي بنفسي وأصُر على أسناني في وحدتي.
حرك شوغونغات يدة مشيرا إلى أنه لم ينتهِ بعد من الكلام:
-أنا رجل عجوز وأتحدث من خبرتي وفهمي.. حسنٌ أن يكون المرء قويا وساعيا إلى السلطة، لكن الأفضل ترك السلطة التي لا يُرجى من ورائها خيرٌ. في الأيام الخوالي كنت أجلس الى جانبك يا تانتلانتش وكان صوتي مسموعا في جميع أرجاء المجلس ومشورتي محل تقدير الجميع. وكنت قويا وذا سطوة. وبرعاية تانتلانتش كنت الرجلَ الأعظم. ثم جاء الرجل الغريب ورأيت أنه كان ماكرا وحكيما وعظيما. وبذلك فقد كان أكثر حكمة وعظمة مني وبدا واضحا أن النفع الأعظم سيأتي منه وليس مني. ووجدت كلماتي آذانا مصغية منك، يا تانتلانتش، ومُنح الرجل الغريب السلطة والمكانة الى جانب ابنتك ثوم. وانتعشت أحوال القبيلة في ظل القوانين الجديدة في الأيام الجديدة وستواصل ازدهارها وانتعاشها طالما ظل هذا الغريب بين ظهرانينا.. نحن كبار في السن، نحن الاثنين، يا تانتلانتش، أنت وأنا، وهذا شأن من شؤون العقل، لا القلب، فاسمع كلماتي ولتجعل الرجل يبقى.

كان ثمة صمت طويل. وراح الزعيم العجوز يفكر بيقين إلهي ثقيل. وبدا على شوغونغات أنه قد أخذ يغيب داخل سديم سنوات عمرة الطويل. ونظر كين بلهفة وشوق إلى المرأة، التي كانت غافلة عنه، ونظراتها مثبتة بعناد على وجه أبيها. دفع الكلب الذئبي مرة أخرى سجف الخيمة جانبا، يشجعه الهدوء السائد داخلها، وتمدد على بطنه طلبا للدفء. وتشمم بفضول يد ثوم، الساكنة، ورفع أذنيه متحديا شوغونغات. ثم انبطح على عجيزتة أمام تانتلانتش. قعقع نصل الرمح ساقطا أرضا، فقفز الكلب جانبا وهو يطلق صيحة فزع ونهش الهواء وفي اللحظة نفسها أخلى المدخل.
نقل تانتلانتش نظره بين الوجوه، متأملا كل وجه على حدة وبإمعان فترة طويلة. ثم رفع رأسه، بملوكية فظة، وأصدر حكمه، بصوت بارد:
-سيبقى الرجل.. ليتجمع كل الصيادين وليُرسَل مبعوث إلى القرية التالية لدعوة المقاتلين. لن أقابل القادم الجديد. تحدث معه أنت معه يا شوغونغات وأخبره أن عليه الرحيل فورا، إن أراد الرحيل بسلام. وإن اندلع قتال ما، اقتلهم، اقتلهم، جميعا، حتى آخر رجل منهم؛ لكنْ ليعلن الجميع أن عليهم الحفاظ على سلامة صديقنا، زوج ابنتي. هذا حسن.
قام شوغونغات وخرج من الخيمة مترنحا وتبعتة ثوم. لكنْ عندما همّ كين بالخروج، أوقفه صوت تانتلانتش:
-يا كين، حسن منك أن تنصاع لكلماتي. سيبقى الرجل، فل اتدع أحدا يؤذيه.

بفضل تعليمات فيرفاكس في فن الحرب، لم يُلق رجال القبائل بأنفسهم في أتون المعركة بجرأة وصخب. بدل ذلك، اكتفوا بالزحف على أعدائهم بكثير من التحفظ وضبط النفس، متسللين من مخبأ الى آخر بصمت وحذر. وعلى ضفة النهر، قرفص المرشدون، محتمين جزئيا بفضاء ضيق ومكشوف. لم يكن بإمكان عيونهم أن ترى شيئا ولم تكن آذانهم قادرة على التقاط الأصوات إلا بكيفية ضبابية وغير أكيدة، لكنهم شعروا بهزة الحياة تسري في أوصال الغابة، حركة غير واضحة وغير قابلة للتعريف لجيش زاحف.
تمتم فيرفاكس:
-عليهم اللعنة. لم يواجهوا البارود من قبل، لكني لقنتهم هذه الحيلة.
ضحك إيفيري فان برنت ونفض الرماد عن غليونه ووضعه بحرص داخل كيس التبغ وأرخى رباط سكين الصيد من الغمد المشدود على فخذه. ثم قال:
-انتظر، سنصد الهجوم ونكسر قلوبهم.
-سيتفرقون بسرعة، إن تذكّروا تعليماتي.
-دعهم يفعلون ذلك. البنادق المخزنية خُلقت لتقتل. ستكون دماؤهم أول الدماء! المزيد من التبغ، يا لوون!
كان لوون، وهو من قبيلة كري، قد اكتشف كتفا عارية، فأرسل لصاحبها طلقة حارقة لتعلمه بهذا الاكتشاف. تمتم فيرفاكس:
-لو كان بإمكاننا فقط أن نغريهم بالتقدم إلى الأمام.
ولمح فان برنت رأسا يطل من وراء شجرة بعيدة. وبطلقة سريعة، طرح الرجل أرضا وهو يصارع سكرات الموت. وجندل مايكل ثالثا واشترك فيرفاكس والبقية في إطلاق النار، مصوبين رصاصهم نحو كل رأس أو جسد مكشوف ونحو كل أجمة تدبّ فيها حركة مفاجئة. وظل خمسة من رجال القبائل منبطحين على وجوههم بعد عبورهم منخفضا صغيرا مكشوفا. والى يسارهم، حيث كانت المخابيء نادرة، نالت دزينة منهم حتفها. لكن هذة العقوبة لم تثن من عزمهم وواصلوا تقدمهم بعناد وحذر، دون عجلة ولا إبطاء.
بعد عشر دقائق، عندما أصبحوا قريبين جدا، توقفت الحركة برمتها وتوقف الزحف فجأة. وتلا ذلك صمت ثقيل مهدد. وارتعشت الخضرة الذهبية للغابات والأحراش في أولى نفحات رياح النهار الخافتة. ورقشت شمس النهار البيضاء الواهنة وجه الأرض بظلال طويلة تخالطها خيوط من النور. ورفع رجل جريح رأسه وزحف بألم خارج المنخفض وتتبعه مايكل ببندقيته، لكنه أحجم عن إطلاق النار. وانطلق، على طول الخط الخفي، الممتد من اليسار إلى اليمين، صوت صفير، ثم حلق في الهواء سرب من السهام. صاح فان برنت، آمرا بصوت بدت فيه رنة جديدة من الحزم والتحدّي:
-استعدوا الآن!

غادروا مخبأهم دفعة واحدة. وسرت في أوصال الغابة روح جديدة وثّابة. وانطلقت صيحة تحدٍّ عظيمة مزقت الهواء، ردّت عليها لعلعة البنادق بصورة لا تقل عنها تحديا. كان الصف الأول من أبناء القبائل يعتفون أنهم سيسقطون عند أول هجوم. لكن إخوتهم اندفعوا فوق جثثهم في موجة بشرية هادرة لا تقاوَم. واندفعت ثوم على رأس هذه الموجة. وكان شعرها يتطاير في الهواء وذراعاها تتحركان بحُرية، وهي تمرق كالسهم بين جذوع الأشجار وتقفز فوق الجذوع المقطوعة التي نُصبت كحواجز لعرقلة تقدم المهاجمين. وصوّب فيرفاكس فوهة بندقيتة عليها وسحب الزناد قبل أن يعرف من هي ثم صاح:
“لا تطلقوا النار، إنها المرأة، انظروا، إنها بلا سلاح.
لم يسمع الكيريون ولا المرشدان، مايكل وشقيقه، ولا فان برنت هذا النداء. لكن ثوم واصلت تقدّمها دون أن تصاب بشيء. خلف صياد ملفع بلباس جلدي كان قد انحرف قبلها جانبا. وأفرغ فيرفاكس مخزونه في المهاجمين، الذين كانوا يحفون بها من اليمين واليسار، واستعد لإطلاق النار على الصياد الضخم. لكن الرجل، الذي بدا أنه كان يعرف فيرفاكس، انحرف جانبا وغرز رمحة في جسد مايكل. في هذه اللحظة كانت ثوم قد وصلت وطوقت عنق زوجها بذراعيها وراحت تتأرجح وتولول، ما أدى الى تشتيت زخم هجوم المحاربين. واندفع عشرون رجلا على الجانبين ووقف فيرفاكس لحظة يتملى جمالها البرونزي، الفاتن، المبهج، الذي حمله إلى أعماق مجهولة، حبلى برؤى غريبة وأحلام أبدية. وطافت في رأسه، في تلك اللحظة، نتف من فلسفات العالم القديم، ممزوجة بأخلاقيات العالم الجديد وأشياء أخرى حقيقية بكيفية رائعة ومتناقضة حد الفجيعة؛ مشاهد الصيد، سكون الغابات الجليل، سهوب الثلج الصامتة، وميض أنوار قاعات الرقص، الغاليريات الكبرى وقاعات المحاضرات، الوميض العابر لأنابيب المختبر اللامعة، الرفوف الطويلة الغاصة بالكتب، نبض المكائن وهدير حركة المرور، نتف من أغنية قديمة، وجوه حبيبات وأصدقاء منسيين، جدول وحيد بين القمم، قارب محطم على شاطئ مفروش بالحصى، حقول غافية تحت سنا القمر، وديان مترعة بالحياة، رائحة القشّ…

وسقط محارب آخر أصيب بطلقة بين عينيه، وانزلق جسده فوق الثلج من شدة اندفاعه. ثاب فيرفاكس إلى رشده ورأى أن من تبقّى على قيد الحياة من رفاقه قد تراجعوا إلى الوراء خلف الأشجار. وسمع صيحات الحرب “هيّا، هيّا”، التي هتفت بها حناجر المحاربين وهم يحاصرون رفاقة ويقطعون أجسادهم ويغرزون فيها أسلحتهم المصنوعة من العظام والعاج. كانت صيحات رفاقه المحاصرين تنزل فوق هامته كاللطمات. وعرفبأن المعركة قد انتهت وأن القضية التي قاتلوا من أجلها قد ضاعت، لكن تقاليده وولاءه العرقي أجبراه على على القتال حتى الموت من أجل أبناء جلدته.
صاحت ثوم:
-زوجي! زوجي!
وحاول التملص منها، لكن ثقل جسدها المتشبث به سمّره في مكانه.
-لا حاجة للقتال! لقد ماتوا جميعا، والحياة جميلة!
لفت ذراعيها حول رقبتة وعانقته بقوة وشبكت ساقيها حول ساقيه حتى تعثر وكاد يسقط، فارتدّ إلى الوراء بعنف ليتجنب السقوط، لكنه تعثر ثانية وسقط إلى الوراء. ارتطم رأسه بعرق شجرة ناتئ وشعر بحالة من الذهول أضعفت مقاومته. وأثناء سقوطة كانت ثوم قد سمعت حفيف سهم مريش يمرق من فوق رأسيهما، فغطت جسده بجسدها، كما الدرع وشبكت ذراعيها حوله بقوة، دافنة وجهها وشفتيها في رقبته.

ثم قام كين، من خلف أجمة كثيفة على بعد عشرين مترا، وتطلع حوله بحذر. كان القتال قد شارف على نهايته وكانت صرخات آخر القتلى قد ذوت في الفراغ. ولم يكن ثمة أحد هناك يمكن للعين أن تراه، فوضع سهما في القوس ونظر إلى الرجل والمرأة. وتركزت نظراته على جزء أبيض مكشوف من جسد الرجل مستكينا بين صدر ثوم وذراعيها. أحنى كين القوس وسحب السهم إلى آخره. كرر ذلك مرتين، بهدوء وثقة، ثم أطلق الرمية العظمية المسننة إلى هدفها وسط تلك البقعة من اللحم الأبيض، التي بدت أشد بياضا مما هي عليه، وسط ذلك العناق الأسمر للذراعين والصدر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *