إعداد: إلياس زهدي

حلقة 12

في غابات الشمال* (2/1)


جاك لندن (1876 -1916)

في رحلة ممهورة بالضجر، تمتد خلف آخر الأجمات وبقايا الغياض العشوائية وتنغرز في قلب الأرض العقيمة، التي يُفترض أن الشمال الشحيح قد سلبها بهاءها ومجدها، ثمة مساحات شاسعة من الغابات وامتدادات بلا حصر من الأراضي الواعدة، التي تكاد تكون مجهولة للجميع.. عدا نفر من المستكشفين القلائل، الذين كانوا يتوغلون في أعماقها بين الحين والحين، إنما لم يحدث أبدا لأحدهم أن عاد لسرد وقائع الحكاية.

لكنْ ما هي هذه الأرض العقيمة وما قصتها؟ حسنا، إنها أراضي القطب الشمالي سيئة الصيت، إنها صحارى الدائرة القطبية البيضاء، الوطن القاتم والمرير لثيران المسك وذئاب السهوب المتجمّدة الرشيقة. هكذا وجدها إيفري فان برانت، كئيبة وبلا شجر ومتلفعة بلباس مهلهل وبائس من الطحالب والفطريات المقزّزة. هكذا كانت في البداية، على الأقل، قبل أن يتوغل في الفراغات البيضاء الخاوية الموجودة على الخريطة، ليجد نفسه في أحضان غابات صنوبر غنية لا تخطر على بال حتى في الأحلام وبين قبائل الإسكيمو لم يسجلها التاريخ من قبل.

كان في نيته (وسعيه من أجل الشهرة) أن يكسر رتابة تلك الفراغات البيضاء ويحبّرها بالعلامات السوداء التي تمثل سلاسل الجبال والأغوار والمنخفضات ومجاري الأنهار المتعرجة. وإنها لفرحة مضاعفة أن يفكر في تلك الأحزمة المتراصّة من الغابات وقرى الأهالي المتناثرة هناك.
كان إيفري فان برانت، أو البروفيسور إي. فان برانت، لو شئنا إيراد اسمه ولقبه العلمي بالكامل، العامل في دائرة المساحة الجيولوجية، الشخصية الثانية في قيادة البعثة والأولى في قيادة البعثة الثانوية التي انفصلت عن البعثة الأم وانطلقت في جولة جانبية امتدت مسافة نحو خمسمائة ميل على أحد فروع نهر “ثيلون”، التي كان يقودها الآن متجها إلى واحدة من القرى غير المسجلة على الخريطة.

خلفه كان يسير، بتثاقل عبر الثلج، ثمانية رجال، بينهم مرشدان ينتميان إلى مقاطعات فرنسا الكندية، والباقون ستة رجال أشدّاء من قبيلة “كيري” العائدة في منطقة “مانيتوبا -وي”. أما هو فقد كان السكسونيَ الوحيد القح في هذه المجموعة. كان دمه يفوز داخل عروقه وهو يسير تبعا لتقاليد أسلافه. خلف، كان يسير كلايف وهاستينغز ودريك وهنغست وهورسا. كان أول القادمين من سلالته إلى هذه القرية النائمة في أصقاع “نورثلاند” وكانت هذه الفكرة تبث فيه شعورا بالمجد والنشوة جعل رفاقه يلحظون كيف غادرت وعثاء السفر قدميه وراحتا تنهبان الطريق بخفة ونشاط.

خرجت القرية عن بكرة أبيها وتدفق منها لاستقباله حشد من عناصر مختلفة من الرجال والنساء والأطفال. كان الرجال في المقدمة، حاملين أقواسهم ورماحهم بطريقة تنمّ عن تهديد. وخلفهم سارت النساء والأطفال بخطى خجولة متعثرة. رفع فان برانت ذراعه اليمنى ورسم إشارة السلام، وهي إشارة يفهمها الجميع، وأجابه القرويون بالمثل. ولكنه اغتمّ بعد ظهور رجل ملفع بلباس من الجلد، ركض إلى الأمام وحياه بالإنجليزية قائلا “مرحبا”. كان رجلا ملتحيا، مشبع الخدين والجبين بلون برونزي. ولاحظ فان برانت أنه لم يكن من الأهالي، فأمسك بيده الممدودة وسأله:
-من أنت، أنْدري؟
-من يكون أندري؟
أعاد الرجل علية السؤال.
أمعن فان برانت النظر فيه، ثم صاح:
-بحق الإله، لقد مكثت هنا زمنا طويلا.
أجاب الرجل:
-خمس سنوا.
وشعّ وميض خافت من الفخر في عينيه. وأضاف
-لكن هيا، دعنا نتحدث.
ثم قال، بعدما لاحظ أن فان برانت ينظر الى جماعته:
-دعهم يخيمون إلى جانبي، سيعتني بهم تانتلاش العجوز، والآن هيا بنا.
واستدار وأخذ يسير بخطى عريضة. وتبعه فان برنت بين بيوت القرية المتناثرة. كانت الخيام المصنوعة من جلود أيائل الموظ تنتشر في أرض القرية بطريقة غير منظمة، حسب ما تسمح به طبيعة الأرض، وطافت بالخيام عين فان برانت المدربة وراحت تعُدّ:
-مائتا خيمة، ناهيك عن الصغيرة منها.
قال مخمنا.
أومأ الرجل موافقا:
-تخمين سليم. لكنني أقطن هنا، بعيدا عن الزحمة. كما تعرف، ثمة خصوصية أكثر في ذلك. إجلس، سنآكل معا عندما يعد لنا رجالك شيئا من الطعام. لقد مرت علي خمس سنين هنا نسيت فيها مذاق الشاي وكذلك مذاق التبغ ورائحته.. هل لديك شيء منه؟… آه، شكرا، وهل لديك غليون؟ طيب. والآن، لنشرع في التدخين ونرى إن كان التبغ لا يزال يحتفظ بجاذبيته العتيقة الماكرة.

وأشعل عود ثقاب بعناية حطاب وحمى شعلته الصغيرة بيديه كما لو أنها كانت آخر شعلة نار في العالم. وسحب أول أنفاسه العميقة من الدخان واحتفظ به داخل فمه بعض الوقت وهو يشعر بحالة من التأمل الحالم. ثم شرع ينفث الدخان ببطء وأناة من بين شفتيه المطبقتين، وكأنه لا يريدة أن يفارق فمه. وتسلل إلى وجهه نوع من السكينة والسلام وهو يستند بظهره إلى الوراء وغطت عينيه غشاوة ناعمة من الإحساس بالرضا والارتياح. تنهد بدِعة شديدة وبسعادة وإحساس لا يوصف بالرضا والسّرور. ثم قال فجأة:
-يا إلهي! إنه طيب المذاق إلى أبعد الحدود!
أومأ فان برانت برأسه تعاطفا:
-قلت لي خمس سنوات؟!
-خمس سنوات.
تنهد الرجل مرة أخرى:
-أفترض أنك ترغب في معرفة كيف تم ذلك، بحكم أنك تميل فطريا إلى الاستطلاع. كما أن هذا الوضع الغريب جدا يثير فضولك، ولكنة ليس بكل تلك الغرابة.. لقد جئت من أدمونتون بحثا عن ثيران المسك. ومثل بايك والبقية، نلت حصتي من سوء الحظ وفقدت رفاقي وعدّتي. وعشت تفاصيل القصة القديمة نفسها، المجاعة والمشقة الحكاية نفسها، كما تعرف. وكنت الناجي الوحيد من بين كل رفاقي، إلى أن وصلت، أخيرا، إلى قرية تانتلاش هذه زحفاً على اليدين والركبتين.
-خمس سنوات.
غمغم فان برانت، وكأنه يريد التأكد من صحة الرقم في ذهنه.
-نعم، خمس سنوات في هذا المكان. منذ أواخر فبراير الماضي، عبرت بحيرة غريت سليف في ماي.
صاح فان برانت:
-هل أنت… فيرفاكس؟.
أومأ الرجل برأسه موافقا.
-دعني أرَ. أظن أن اسمك جون، جون فيرفاكس.
وتساءل فيرفاكس، بكسل وهو شبه غائب في دوائر الدخان المنبعثة من فمه في الهواء الساكن:
-كيف عرفت؟
-كان ذلك الشغل الشاغل للصحف حينذاك، بريفانش.
جلس فيرفاكس وقد دب فيه النشاط فجأة:
-بريفانش! لقد ضاع في جبال سموكي.
-نعم ، لكنه خرج منها سالما.
استرخى فيرفاكس ثانية وواصل إطلاق دوائر الدخان من فمه.
-أنا سعيد بسماع ذلك.
وتابع، بصوت حزين:
-كان بريفانش يتنمر عندما يحدث أن يكون لدينا أفكار مشتركة عن سيور الرأس، لكنه نجاك، كما قلت، ذلك الشحاذ. حسنا، يسعدني سماع ذلك.

خمس سنوات… ظلت العبارة تستحوذ على تفكير فان برانت طويلا. وبطريقة ما، بدا أن وجه إميلي ساوثويث يصعد من قلب العدم ويتجسّد كاملا أمامه. لقد مرت خمس سنوات على افتراقهما.. وأطلق سرب من الطيور البرية، كان يطير على هيأة إسفين، صياحا خافتا فوق رؤوسهم. وعندما رأى المخيم انحرف بسرعة نحو الشمال، في اتجاة الشمس الهامدة. وعجز فان برانت عن متابعة خط طيرانه وأخرج ساعته. كانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد منتصف الليل. وشعّت الغيوم، التي تجمعت أقصى الشمال، بلون أحمر دموي وانطلقت خيوط حمراء داكنة من الأشعة نحو الجنوب، مطلقة نحو الغابات المعتمة سهاما من ضياء شاحب. كان الهواء شديد السكون، وقفت فية إبر الصنوبر جامدة بلا حراك وأضحت الأصوات القليلة الصادرة من المخيم واضحة جدا ودقيقة مثل صوت بوق. واستسلم الكيريون (المكلفون بإشعال النار وإبقائها مشتعلة) والمرشدون للسكون الذي انبثّ في المكان وراحوا يتكلمون بأصوات خفيضة حالمة. وتحرك الطاهي بحذر، محاولا جهده ألا ترتطم مقلاتة بقِدره، احتراما للسكون.

ومن مكان ما، انطلق صوت طفل يبكي. ومن أعماق الغابة، ارتفع صوت امرأة ما، مثل خيط من الفضة، مولولا بحزن: “أووووو هااهاه أووا واوا أُووهاهاها أُوواواوا” (Ooooooa “O-o-o-o-o-o-a-haa-ha-a-

ha-aa-a-a, O-o-o-o-oo-a-ha-a-ha-a).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *