لاشك في أن بلادنا تواجه تهديدا حقيقيا بفقدان ثروتها المائية، بسبب جفاف هيكلي و سوء تدبير أدى إلى استنزاف رصيدنا المائي بشكل غير عقلاني.
و تفيد المعطيات التي نشرها القطاع الوصي على الماء، أن حقينة السدود نزلت إلى مستويات متدنية، حتى أنه قد يكون من الصعب توفير احتياطي كافي من الماء الصالح للشرب في بعض المناطق، إذا لم تعرف بلادنا تساقطات مطرية مهمة خلال الأسابيع المقبلة، خاصة مع هبوط مستوى الفرشة المائية بشكل غير مسبوق.
بكل تأكيد، الأهمية الاستراتيجية للماء، و ما يطرحه نقصان هذه المادة من تحديات اجتماعية و بيئية و اقتصادية معقدة، هو ما جعل جلالة الملك يتناوله كمحور رئيسي في خطابه السامي أمام غرفتي البرلمان، في افتتاح السنة التشريعية الثانية من الولاية البرلمانية الحالية، إلى جانب موضوع الاستثمار الذي يمس واقع الناس عبر فرص التشغيل التي يتيحها. و في تناول موضوع الماء، تجسيد فعلي لشجاعة قول الحقيقة و لو كانت قاسية، لعل كل الأطراف المعنية تتحمل مسؤولياتها و تسارع إلى تدبير الموقف بجدية و عقلانية وحكامة راشدة.
الخطاب الملكي دق جرس إنذار استراتيجي و حمل دعوة للفاعلين العموميين و الخواص، و لأبناء الشعب المغربي قاطبة، لتجاوز أي تواصل متذبذب و محتشم حول إشكالية نذرة المياه، و المرور إلى تعبئة وطنية و تواصل شامل لإحداث وعي حقيقي بحتمية إنهاء كل ما يؤثر على الثروة المائية في بلادنا، و يهدد المكتسبات التي تحققت بفضل مجهودات الدولة المغربية التي وفرت تجهيزات كبرى لتعبئة المياه الصالحة للشرب و السقي، خلال السنوات الماضية.
في هذا السياق، نحن مدعوين لترسيخ ثقافة مجتمعية و نهج تدبيري جديد يتعاطى مع الماء كثروة وطنية مشتركة مهددة بالانقراض، يتعين استعمالها بأعلى درجات الترشيد و التضامن بين الفئات المجتمعية، و الاعتماد على مخطط وطني جديد للماء، و سن مقتضيات قانونية حاسمة تتيح التعاطي بصرامة مع المخالفين والمستهترين و العابثين بمادة حيوية لم يعد ممكنا تركها رهينة لمنطق المصالح الفردية والفئوية التي لا تراعي الصالح العام، و الممارسات الريعية التي لا تحترم مبدأ التضامن الوطني في مواجهة الأزمات و ضغط المشاكل الكبرى.
و إذا كان ترشيد استعمال الماء يهم كل المواطنين في سلوكهم اليومي، إلا أن واقع استهلاك القطاع الفلاحي لأكثر من 80 % من الاحتياط المائي الوطني، يفرض ضرورة المسارعة للوقوف في وجه الاستعمال اللاعقلاني لمياه السقي واحتياطات الآبار، الذي يتحدى المسؤولية الوطنية التي على الجميع الالتزام بها. كما أنه لم يعد هنالك أي منطق في غض الطرف عن تشييد وحدات جديدة لفواكه و خضروات تستهلك الماء بشكل كبير، مثل الأفوكا و الفواكه الاستوائية و البطيخ و الدلاح و الطماطم و الخيار، التي تكاثرت حتى في المناطق التي تعرف جفافا كبيرا و انخفاضا في مستوى الفرشة المائية.
قد يبدو ذلك الأمر صعبا، على اعتبار تطبيعنا مع ممارسات سقوية لم تعد مقبولة حاليا، إلا أنه لا مفر من رفع تحدي منع الزراعات المستنزفة للمياه، ما عدا في الأراضي التي توجد ضمن الأحواض المائية التي تستفيد من محطات تحلية مياه البحر. لذلك، لا مكان للعقليات التدبيرية غير المبالية بخطورة الموقف في مسألة الرصيد المائي، وغير الواعية باستعجالية ترشيد اختياراتنا المستقبلية بتجويد حكامة استغلال مياه السقي و تشجيع الوحدات الزراعية للاستثمار في تجهيزات تضمن استهلاكا عقلانيا و مستديما.
أزمة الماء قائمة، و الوضع متحكم فيه بفضل التدابير الاستباقية و برامج الدعم التي تمت بتوجيه ملكي سامي. لكن، لاشيء يضمن أن لا نجد أنفسنا في وضع أكثر دقة إذا استمر الجفاف، خاصة مع وجود إكراهات أخرى مطروحة في الواقع. لذا، يتعين المسارعة إلى اعتماد الخطاب الملكي أمام غرفتي البرلمان، كخارطة طريق تقدم توجيهات عملية لضمان الحفاظ على ثروة وطنية لا تعوض. وعلى كل الأطراف المعنية مسؤولية التفاعل باحترافية و نجاعة و نهج تشاركي، في ظرف يتميز بقلق مجتمعي تعكسه معاناة فئات كثيرة من تبعات أزمة جائحة كورونا، و من الغلاء و تراجع القدرة الشرائية، و كلها عوامل أسقطت أزيد من مليون مواطن إضافي في خانة الفقر، بحسب آخر إحصائيات رسمية صدرت عن المندوبية السامية للتخطيط.
بروح وطنية صادقة، و بعيدا عن أية مزايدات سياسوية، علينا الانتباه إلى حساسية ملف الماء و ما يطرحه من تحديات وجودية تلزمنا بوقف الاختلالات المسجلة كي لا يكبر أثرها و يعمق أثر إشكالات أخرى تحاول بلادنا تدبيرها لما فيه خير حاضرنا و مستقبلنا، من منطلق إيماننا بأن المغرب كبير على العابثين، و بأن أمننا القومي الاستراتيجي خط أحمر لا يجب الصمت عن أي ممارسات قد تمسه.