عبد الرزاق بوتمزار

ح. 41


سلاماً “أبو سلمى

طيلةَ عقود، لم يعرف كثير من المغاربة من الصحف الوطنية غيرَ يوميتَيْ العلَم والاتحاد الاشتراكي، التي كانت تحمل في السّابق اسمَي المحرّر ثم التّحرير..

في عقد التسعينيات، الذي عرف بدايات ابتلائنا بمُتابعة من يجري من وقائعَ في رُبوع المملكة، شكّلت “الاتحاد الاشتراكي” منبرَ شرائحَ واسعةٍ من قرّاء المغرب. بالنسبة إليّ، كنتُ غالباً أكتفي بقراءة عناوين المقالات (كمْ كانت مقالاتُ الاتحاد الاشتراكي حارقة!) لأمُرّ إلى الصّفحات الموالية. كنتُ أهتمّ، بالخصوص، بالأخبار الثقافية والفنية.

في ذلك الزّمن البعيد، كانت للكلمات مَعانٍ ودلالاتٌ وكانت الكتابات عُروضاً مُختصَرةً لقضايا الفئات المسحوقة وانشغالاتها. حتى الكتاباتُ الأدبية كانت مُبطَّنة بقناعات إيديولوجية وخلفيات سياسية واضحة..

وبقدْر ما كنتُ لا أفقَه في آداب السّياسة، كنتُ في المقابل مُهتمّاً بسياسات الأدب. كانت أسماء “كبيرة” تحتكر توقيعَ الصّفحات والملاحق الثقافية، اليوميِّ منها والأسبوعيّ. أسماءُ أحكمتْ حولها سياجاتٍ فاصلةً، عبر عديدِ أجهزة ومُنظّماتٍ وكثيرِ مُسمَّيات، والهدف واحد: ليس هناك أدبٌ بريء!..

بالنسبة إلينا، نحن طلبة الآداب، كانت الملاحق التي تتناوب على صفحات الصحيفتين “القوميتين” مصادرَ ومراجعَ اختياريةً نستأنس بها ونُحصّن بمحتوياتها ترسانتَنا المعرفيةَ، التي ما تنفكّ تتّسع وتغتني بمَداركَ ومُستجدّاتٍ يتنازع طرفيْها فكرُ آتٍ من الشّرق وآخرُ، أكثر حضوراً ووقعاً، قادمٌ من الغرب (فرنسا) وقبلهما ركائزُ ثقافتنا الوطنية، بجذورها الأمازيغية والصّحراوية والإفريقية المُتجذّرة.

بين هذا وذاك، كان أبو سلمى “امتحانَنا” اليوميَ الاختياريّ لمُساءَلة ذاكرتنا، الفردية والجمعية. كنّا نستحضر جميعَ “محفوظاتنا” ونستنفر مَلَكات الاسترجاع حتى لا نترك للبياض في خانات “أبو سلمى” مجالاً ينتقص منا أو يستصغر مَداركنا.

كنّا نجتمع، في أوقات مُتباعِدة من اليوم، حول متقاطعات الطبيب النفسانيّ ومُسهَماته لنكسر إيقاع الدّراسة ورتابة الاستعداد للامتحانات. أحياناً، كنّا نشتري الجريدةَ فقط كي نملأ الشّبكة وننتشيّ بلحظة انتصار جماعيّ على هذا المختبر اليومي لثقافتنا العامّة، في شخص “أبو سلمى”، الذي طبقتْ شهرتُه الآفاق.

ويوماً بعد يوم، صرنا نتباهى بنيل قصب السّبق في ملء أكبر قدْر من خانات الشّبكة. وإذا كانت الكرة أفيون الشّعوب، فقد كانت “الشّبكة” أفيونَ المهوُوسين بسراب الثقافة وهواة قتل الوقت وصلبه على جُدران الخيال والفكر.

وبين أحاديثَ حول الثقافة والسّياسة؛ بين تبادُل أخبار الرّياضة والسّينما واستعراض تفاصيل آخر مغامراتنا الغرامية؛ توزّعت هواياتُنا وتقاطعت توجّهاتُنا والمُيولات.

في حقبة التسعينيات الجميلة تلك كانت لنا هواياتُنا التي نُخصّص لها حيزاً واسعاً من زمننا؛ زمنٍ كان ينصرم مسرعاً وبلا محطاتِ توقّفٍ كثيرة. كنا، أيضاً، نُلاحِق دعوات هنا وهناك، من بعض الفرق المسرحية، التلاميذية أو الطلابية، التي كانت تنشط غالباً في دُورِ شبابٍ بئيسةٍ يُجسّد “حالُها” البونَ الشّاسع القائمَ بين النظريّ والكائن، والذي دأب السّاهرون على شؤوننا الثقافية على تزكيته والحفاظ عليه، حتى صار -أو كاد- مارْكة مغربية بامتياز..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *