كلمة السر في حياة عبد المجيد الظلمي كانت دائما هي الصمت. أو لنقل هي ما كان يعتقد محبوه، وباقي الناس، أنه صمت. مع أنه لم يكن سوى كلاما بطريقة أخرى. لم يفهمه إلا القريبون من قلبه. ذلك القلب الذي اختار لـ”المايسترو” أن يموت في صمت؛ صمت العظماء.
الظلمي، الذي ملك قلوب عشاق الكرة المغربية، وفي وقت لاحق حتى عشاقها في القارة السمراء كلها، وفي جزء من العالم، ممن انبهروا بسحره في كأس العالم مكسيكو 1986، كان محبا للصمت، حتى وهو يملأ الدنيا ويشغل الناس أيام مجده الكروي.
لم يكن يحب الحديث إلى الإعلام. ولأنه كاريزماتي ومحبوب فوق الوصف، فقد سرى وسط الإعلاميين ما يشبه الاستجابة الصامتة لتلك الرغبة لدى “المايسترو”. فتقرر، ضمنيا، ضرورة احترام ذلك الصمت، وعوض من قبل من يعيشون بكلام الآخرين، وبخاصة المشاهير، بوصف العملاق بـ”الفيلسوف الصامت”.
عبد المجيد الظلمي لم يكن “كواريا” من العاديين. ولم يكن أيضا من العباقرة. فقد كان فوق العادي، وأكثر بكثير من العبقري. كان رسولا من جيله إلى الأجيال التي تلته. من جيل الستينات والسبعينات من القرن الماضي، إلى من أحبوا الكرة في ما بعد.
تتلمذ الظمي، المولود في 19 أبريل 1953، على عمالقة قلما يجود الزمن بأمثالهم. جيل الكرة لأجل الكرة، أو الفن لأجل الفن. جيل “البيتشو”. “قراوه الكرة ديال بصح”. ثم ما لبث هذا اللاعب، الذي التحق بالرجاء البيضاوي بداية السبعينات، وأخلص له، أن صار أستاذا لجيلين، فكان مثل “ولي صالح”، يتعلم منه الآخرون، ويكنون له الاحترام، ويدهشهم في كل مرة أكثر من المرة الماضية بحركاته وسكناته، وحتى بغيابه.
لم يخطئ الظلمي أبدا. كان شبه مقدس لدى الجماهير الرجاوية خاصة، والمغربية عامة. وحين يحدث أن يرتكب خطأ، يتكفل الإعلاميون، ومعهم الجمهور، بترجمة الخطأ إلى شيء يفوق الخيال؛ إلى واحد من الفلتات الجميلة لـ”المايسترو”. وقد يصبح الخطأ حكاية تروى، حتى يحب المستمع لو أن أخطاء الظلمي كانت أكثر شيء اجترحه وهو يلعب.
الذين يعرفون الكواليس الرجاوية أيام عبد المجيد الظلمي يؤكدون أنه كان هو الفريق. البقية من اللاعبين كانوا مثل كواكب تدور حول محور “المايسترو”. والدليل أن وجوده في الملعب لم يكن محل نقاش. فمهما حدث، لا بد أن يظهر الظلمي في وسط الميدان، بقامته القصيرة، وشعره المرسل والمبعثر، وقميصه المسبل على “الشورط”، وجورباه القصيران.
وما أن تنطلق المباريات حتى يتحول الظلمي إلى شاعر وموسيقي ورسام. وتترى اللوحات. مثلما يحدث في بالي عالمي. لوحة أجمل من أختها. وكل لوحة تفضي إلى شوق للوحة غيرها. وما أن تصل الكرة إلى قدم “المايسترو” حتى يحبس الجمهور الأنفاس، لا يملك توقع ما سيجترحه العملاق القصير، أو كأنه يطلب المفاجأة؛ وهو ما يستجيب له الظلمي، في توارد خواطر عجيب، يكاد يشبه تلك الجذبة الصوفية بين الشيخ والمريدين.
هناك مباريات، بعينها، لعبها عبد المجيد الظلمي؛ سواء مع الرجاء أو الأولمبيك أو المنتخب الوطني، تشبه تلك النقوش الباذخة في المآثر التاريخية الفارهة، أو معلقات العرب في الشعر الجاهلي، أو الطرب الأندلسي والعيطة في الفن المغربي. ذلك أنها سجلت حضورا فاتنا للاعب. حتى إن الواصفين الرياضيين، وبرز منهم على الخصوص صديقه سعيد زدوق، كانوا يتحولون من التعليق البسيط إلى البسيط المعلق في التاريخ، وكم من جمل قالها زدوق، مثلا، ما تزال تطن في الآذان إلى اليوم، مثل تلك الجملة الشهيرة التي انطلقت من لسانه وهو يصف مباراة بين المغرب ومصر، في ملعب القاهرة الدولي، إذ نطق :”الظلمي وكأنه اليوم كيلعب في الدار البيضاء”؛ أي أن “المايسترو” كان يلعب مرتاحا جدا، فلا تشعر أنه يخضع للضغط، أو لحيل اللاعبين المصريين، بل هو من يتحكم في خيوط اللعب، ويبدع فوق ذلك.
خارج الملاعب، التي كان يغادرها عبد المجيد الظلمي بسرعة، ليلتحق بأسرته في حي عين الشق بالدار البيضاء، أو بأسرته الصغيرة، في حي بوسكورة، لاحقا، أو بزملائه، أو بأصدقائه المقربين، كان شخصا آخر تماما، بروح مرحة، وعفوية أخاذة، وميل إلى الحديث في الشأن العام، دون أي حديث عن الساحرة المستديرة.
حين قرر عبد المجيد الظلمي، “الروح المعتقة للخضراء”، وأيقونة الرجاء البيضاوي، أن ينتقل، سنة 1987، إلى فريق الأولمبيك البيضاوي، أو جمعية الحليب، كما كان يطلق عليه، لم يعل صوت الرجاويين كثيرا بالنقد، أو التجريح، أو القدح في اختياره. بل سرعان ما طغى صوت واحد، ذلك الذي يقول إن من حق “المايسترو“، بعد كل ما أعطاه للرجاء، وهو كثير، وفوق أن يحصى، أن يختم مساره بـ”تقاعد مريح”، وأن يضمن مستقبله، ومستقبل أبنائه بمبلغ محترم من هذا الفريق الغني.
ولأنه لم يكن ممكنا أن ينهي مساره إلا مع فريقه الأم، فسرعان ما عاد الظلمي إلى الأحضان الدافئة سنة 1990، ليكون فريقه الأول بابه نحو الاعتزال. ويحقق قول أبو تمام :”ما الحب إلا للحبيب الأول”. ما جعل حب الرجاويين له يصبح أشبه بمعيار من معايير “الشعب الرجاوي”، فلا يمكن أن تكون رجاويا دون أن تحب الظلمي. وحتى حين جاء جيل لم يعرفه، فلم يكن ذلك ذا شأن، فحب الظلمي لا يحتاج إلى معرفته.
يكفي عبد المجيد الظلمي أنه كان لاعبا يحترمه حتى الحكام. يخجلون منه. وتراهم وهم يتحدثون إليه، إثر خطأ معين، يتوددون ويتلطفون. ويكفيه أيضا أن منافسيه كانوا يصفقون له أثناء المباريات ضده. ويكفيه أنه حمل قميص المنتخب في دورتين قاريتين، وفي كأس العالم والألعاب الأولمبية. ويكفيه أنه نال اعتراف منظمة اليونسكو بصفته لاعبا يمثل اللعب النظيف، لأنه لم يكن عنيفا، ولا مؤذيا، بقدر ما كان متسامحا، وراقيا. ويكفيه أنه كان فوق الجدل.
رحم الله الظلمي. وإنا لله، وإنا إليه راجعون.
*يونس الخراشي/ نشر 29 يوليوز 2017