عبد الرزاق بوتمُزار

 

ح. 12

بين الحَياة والموت.. خيطٌ رفيع

لمدّة طويلة، إذنْ، وأنا أنزِف داخلياً دون أن أدري. كان ذلك سببَ الضّعف الذي راح يستبدّ بي يوماً بعد يوم إلى أن أوصلني إلى غرفة الإنعاش. عاش أفراد أسرتي حالةَ استنفار لمُواجَهة ذلك الطارئ. قدّموا تضحيات كثيرةً لإنقاذ حياتي. كلُّ واحد منهم ساهم بطريقته الخاصّة. إخوتي الأصغرُ سنّا مَنحُوني دماءهم حتى يُخفّفوا عن الكبار، قدْرَ المُستطاع، تكاليفَ شراء أكياس الدّماء الكثيرة التي كانت عُروقي النّاشفة تحتاجها.

والدتي الحبيبة داومتْ على عيادتي وإحضار ما لذ من الأكلات، وإن كانت، في غالبها، بدل أن تنتهي في بطني تُحوّل الوجهة، بموافقة منّي، إلى بُطون المرضى الذين قاسَموني أسِرّة المرض.

لأيام طويلة لبثتُ مشدوداً إلى الأنابيب البلاستيكية، التي كانت تضُخّ الدّماء في جسدي المنهَكَ. على امتداد أسابيعَ، كانت أقصى أمنياتي أن أتمكّنَ من ازدراد وجبةٍ واحدة ممّا كانت تأتيني به أمّي! لازمتْني حالة التقيؤ لمدة طويلة، حتى قبل نقلي إلى المُستشفى.

مسلوباً وغيرَ قادر على استيعاب ما يجري حولي، تَجسّدَ الموتُ أمامي مراراً. بابتسامة شامتة مقيتة، تَربّصَ بي. كان قريبا جدّاً من الانقضاض علَيّ وخنقِ أنفاس الحياة في دواخلي. في تلك الأيام العصيبة، أدركتُ كم هو رفيعٌ ذلك الخيطُ الفاصلُ بين الحياة واللاحياة!

بموازاة مع عملية التزود بالدّماء، كنتُ أخضع لغسل للمعدة والهدف، حسب ما خمّنتُ، طرد ما تَجمّعَ فيها من الدّماء الفاسدة طيلة شهور؛ عملية كانت تُجرى بوسائلَ تقليديةٍ تُلامِس كثيرا حدود البدائية. كان جسدي المسكين، خلال ذلك الشهر الطويل والمؤلم، موضوعاً لتجارب مريرة تعجز الكلمات عن وصفها..

بعد أزيدَ من أسبوعين، تمكّنتُ، أخيرا، من مُغادَرة فراش الموت. سِرتُ بخطواتٍ مُتثاقلة بمُساعَدة أحد المرضى، لقضاء حاجة مُلِحّة. أحسسْتُ بسعادةٍ غامرة وأنا أقطع المشوار القصير/ الطويلَ دون أن تتخلى عنّي رُكبتاي!

وبين نظرات المرضى المُشفقة والمُشجّعة، تناولتُ تفاحة من على المنضدة أمامي وقرّرتُ خوضَ غمار امتحانٍ آخرَ عسيرٍ اسمُه الأكل! رحتُ أقضم التفاحة بحذر، وأنا أتحسّب لثورة أمعائي في أةّ لحظة. وبعدما أيقنتُ من استقرار أجزاء التفاحة في جوفي دون أن تُعاودني رغبة التقيّؤ المقيتة، أجهزتُ على كلّ الطعام المُتوفّر.. استلقيتُ مُتخماً وسعيداً على السّرير. آهٍ، ما أسهلَ إدراك السّعادة أحياناً!

حانتْ منّي التفاتة صوب الباب. رأيتُ شبحَ الموت يغادر مَخْبأه. أخفى وجهَه داخل رِدائه الأسود، يُداري مَلامح الهزيمة. ترك الغرفة مُسرعاً في تأفّف؛ ليبحث عن شخص غيري يتربّص به الدّوائر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *