إعداد: عبدو المراكشي

هي أسماء كثيرة حلّقت بعيدا عن أرض الوطن لتصنع تاريخها في المهجر. من الرياضة إلى السياسة، فالثقافة والبحث العلمي والاقتصاد وعلم الاجتماع.. أسماء لمعتْ في شتى الميادين، فرّقتها الجغرافيا ووحّدها اسم المغرب.. ونقدّم لكم لمحة عن بعضهم في هذه الفسحة الرمضانية.

هو مفكر وأديب مغربي لمع اسمه في ديار المهجر. في فرنسا استقر محمد خير الدين (1941 -1995) منفى اختياريا/ إجباريا، هاربا من الملاحقة القانونية لاشتراكه في انتفاضة مارس 1965.

لم يعد خير الدين إلى المغرب حتى 1970. ومكث فيه إلى أن ترجّل عن صهوة الإبداع والحياة في 1995.

تتشكل أعمال خير الدين، الذي لم يكتب مطلقا بالعربية أو بالأمازيغية، بل كتب بالفرنسية فقط، من رويات وأشعار مختلفة الأشكال، يطبعها “التزام” سياسي واجتماعي قوي جعله أحد أهم الاصوات المجددة في الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية. من أهم أعماله “أكادير”، “النباش”، “أغنشيش” و”يوميات سرير الموت” (مذكرات).

لم ينسَ محمد خير الدين أصله رغم ما بلغ من مجد. لم تفارق ذاكرته قريته التي رأى فيها النور رغم أنه عاش في أرقى عواصم العالم. ظل هذا السوسي الأصيل يكتب عن قريته حتى وهو في فراش الموت.

ولد الشاعر والروائي المغربي محمد خير الدين، الذي يعدّ من أبرز الشخصيات الأدبية المغربية في القرن العشرين، في قرية “تافراوت” في تزنيت. من هناك، هاجرت أسرته إلى الدار البيضاء، حيث كبر محمد وترعرع. ترك الدراسة مبكرا وعمل وهو في العشرين مندوبا لصندوق الضمان الاجتماعي في الجنوب. وفي 1965 استقال من منصبه وهاجر إلى باريس.

بدأ محمد يكتب الشعر وهو بعد مراهقاًَ. وكان ينشر قصائده في صحيفة ”لا فيجي ماروكين”. وكانت قصائده محبوكة على الطريقة الكلاسيكية وبلغة فرنسية أنيقة. وبرز في الستينيات كواحد من ألمع الشعراء المحدثين، إلى جانب الطاهر بن جلون وعبد اللطيف اللعبي ومصطفى النيسابوري وعبد الكبير الخطيبي.

صدر لخير الدين كتابه الأول في لندن 1964 بعنوان ”غثيان أسود”، وضم قصائد تشي بيأس وجودي متأصل. وفي 1967 نشرت له دار سوي الفرنسية رائعته ” أكادير”، التي كتبها في أعقاب الزلزال الذي دمر المدينة في 1960.

عاد محمد خير الدين إلى المغرب في 1979 بعد غياب ستة عشر عاما وظل في بلاده حتى وفاته بعد أن أصيب بمرض عضال.

بعد عودته إلى المغرب أصدر محمد خير الدين ديوانا جديدا سماه ”انبعاث الورود البرية”. وواظب في المغرب على نشر نصوص متفرقة في جريدة ”المغرب” الفرنكوفونية، التي كانت تصدر في ثمانينيات القرن الماضي. وشكلت هذه النصوص نواة رواية جديدة غاص فيها عميقاً في أصوله السوسية الغابرة ونشرتها دار “سوي” الفرنسية في 1984 بعنوان ”أسطورة وحياة أغونشيش”. وكان آخر عمل شعري أصدره قبيل وفاته ديوانه “نصب تذكاري”.

بعد موته (18 نونبر 1995) نُشرت ترجمات ثلاث لمذكراته الأخيرة على فراش الموت.

بوفاته، فقد المشهد الثقافي المغربي والعالمي أديبا استثنائيا بكل المقاييس، في شخص محمد خير الدين “الطائر الأزرق”.

عُرف عنه تمرده على كل السلط المعروفة، ما يمكن أن نستشفه من نصوصه الكثيرة، وما جعله كثير الترحال، مثل الطوارق، الذين احتفى بهم كثيرا في روايته “Il était une fois un vieux couple heureux”.

انتقل بداية من قريته العميقة إلى الدار البيضاء، ومنها إلى باريس، علما أن هذا الترحال الدائم -حسب معظم نقاده- كان ضروريا ومطلوبا بالنسبة إلى حالة أدبية وظاهرة إبداعية اسمها خير الدين. حتىيواصل مسيرته الإبداعية،

اختار خير الدين الكتابة في زمن حالك ومرير بالنظر إلى الوضع العام في المغرب في الستينيات، خصوصا أن اختياره في الكتابة ترافق مع اختياره التموقع إلى جانب قضايا وانشغالات شعبه واختياره الالتزام أدبيا وإيديولوجيا، ما يعنيه ذلك من رفض للاضطهاد والاستبداد.

في لفترة حرجة من تاريخ المغرب، بلغ فيها الغليان أشده، من انتفاضات واضطرابات وحالة استثناء ورقابة، اختار خير الدين الانضمام إلى جبهة الرفض من المثقفين الذين أسسوا مجلة “souffles” (أنفاس) التي كان ضمن هيئة تحريرها مع مصطفى النسابوري وعبد اللطيف اللعبي.

وفي 1967، أصدر خير الدين روايته الأولى “Agadir” أكادير في فرنسا عن دار “لوسوي”. وذهب النقاد بعد هذه الرّواية إلى أنها لا تنبئ فقط بميلاد روائي مبدع باللغة الفرنسية، وإنما عن “ميلاد استثنائي لشاعر كبير بأنفاس شعرية وأسطورية”.

وإذا كانت فترة منفاه زاخرة وزاهرة من حيث وفرة إنتاجه الأدبي، فقد تميزت الفترة ما بين 1979 -1989 بقلة إصداراته. ولم يصدر في هذا العقد إلا كتابين، ديوان “Résurrection des fleurs sauvages” في 1981 عن دار النشر الستوكي، ثم رواية Légende et vie” “d’Agoun’chuch في 1984.

التزم محمد خير الدين، طيلة العامين الأولين من عودته، الصّمت. ربّما كان سعيدا بعودته إلى بلده بعد طول غياب في المنفى.

تجول خير الدين في مناطق المغرب لاستكشافها مجددا ولم يكن يكتب سوى بعض النصوص القصيرة في الصحف والمجلات. ثم بدأ العمل في المجال الصحافي، إذ أصبح متعاونا صحافيا طيلة نونبر 1980 إلى غاية يونيو 1981 مع يومية “Al Maghrib”، التي صار مشرفا على ملحقها الثقافي.

انضم خير الدين، أيضا، إلى هيئة تحرير مجلة “Reptures” التي كانت تصدر في الدار البيضاء. وفي الفترة ما بين 1982 و1983 ظهرت له مجموعة من النصوص الشعرية والمقالات التحليلية والقراءات الأدبية في معظم منابر المرحلة: الأساس، أمازيغ، سندباد، لاماليف، البيان. كما أسّس رفقة الفنان الساخر أحمد السنوسي جريدة ساخرة اسمها «الهدهد»، التي أشرف على تحريرها طيلة يونيو ويوليوز 1983، قبل أن تصادرها سلطات الرقابة بسبب خطها التحريري القوي والملتزم في تلك الفترة الحساسة جدا من تاريخ المغرب.

من شتنبر 1983 إلى غاية ماي 1984 أصبح محمد خير الدين يكتب عمودا أسبوعيا في مجلة “Le Message de la nation”، التي كان يديرها الصحفي عبد الله الستوكي. وبسبب اشتغاله في روايته «أسطورة وحياة أكونشيش» توقف عن هذا العمل الصحافي من يونيو 1984 إلى يونيو 1985.

وخلال فترة 1990 -1995، عاد محمد خير الدين إلى باريس، مشتغلا على مسرحيته الوحيدة “Les Cerbères Tobias”. كما نشر مقالاته بكل من مجلتي “جون أفريك” و”إسبري”.

في 1991 أصدر ديوانه الشعري Mémorial، وفي أبريل 1992 أثناء تقديم هذه الأضمومة الشعرية في أحد الأنشطة الثقافية التي احتضنتها عاصمة الأنوار بدا خير الدين متعبا ومنهكا مبحوح الصوت، لقد كانت تلك علامة على مرضه.

وبعد ذلك بفترة قصيرة، عاد خير الدين إلى المغرب نهائيا، وأخذ يعمل دون توقف، وسط وضع صحي ومعاناة مع المرض اللعين، حتى يكمل ما بدأه من أعمال، ومنها ديوانه “Proses”، الذي سبق له أن نشر معظم نصوصه في كل من “المغرب”، و”إسبري” و”تيدمي” و”الأساس “البيان” و”تيفيناغ”.

في خضمّ ذلك، واصل خير الدينكتابة سلسلة في النقد التشكيلي وخصّصها للوحات الفنان الحبيب المسفر، فكان كتابه “L’Hbib M’seffer vu par Khaïr-Eddine”، الصادر في 1992.

وفوق كل هذا الركام الإبداعي الغني والنوعي والمتنوع، كتب خير الدين أعمالا أخرى لا تقل إبداعية عن سابقيها، بل كتبها وهو على سرير المرض، بجسد منهك بالعلاجات الكيميائية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *