عبد الرزاق بوتمُزّار
ح. 6
الرّيفْ، الهلالْ، مُـوريتـَانـْيـا.. الحَياةْ سينِمـَا!
كثيرةً كانت السّينمات في مْرّاكشْ ذاتَ يوم. بعد الـرّيف، حيث تعلـّمتُ أولى أساسيّات عشق الصّورة، جاء دور مُوريطانـْيا. لا أذكـر جيّداً أول فيلم تابعتُ فيه الوْلدْ وهو يصرعُ كلّ أعدائه والمُتربّصين ويقفز على أيّ جدار، من إسمنت أو نار، كأنّه يسبحُ في قطعةِ حلوى، فقط من أجل عينـَيْها (ولكم أن تتخيّلوا لونَ عينـَيْها كما تـُريدون).. وفقط مِن أجل عينيها يصير المستحيلُ مُمكناً: البْنتْ.. البْنتْ، لن يخرج الأمر، إذن، عن أحدِهما: الهْندي أو الكاراتي (وفي رواية أخرى الكاراطي).. إمّا تاريخْ وإمَّا جغرافْيا. كان القاسم المُشترَك بين مُعظم قاعات السّينما، ذاتَ طفولةٍ، فشباب، أنّ الفرجة تنحصر في أحد اثنـَين، لا ثالثَ لهما إلا في ما ندر: الجزء الأول لهْنـدي والثـّاني لكاراتي، وبينهما “أنتـْراكتْ” يُمْكن للمتفرّج أن يبيع خلاله ورقته لمُتفرّج آخر ويغادر هو القاعة وقد شبع سينما.
من الرّيف، إلى القنّارية، إلى مرحباً، فإذنْ؛ مِن مُوريتانْيا إلى الهلال، فمبروكة ثم السّعادة… لا صوتَ يعلو فوق صوت الوْلدْ وهو يُخضع العالـَمَ، بما جمع من أشرار وعُتاة وصناديدَ لا شغل لهم غير معاكسته، هو الذي، من أجل عينَيْ محبوبته، الخضراوَين أو الزّرقاوَين في الغالب (أو الكَحيلتين حتـّى، واصلوا التـّخيّل) هو مُستعدّ لمواجَهة الشّيطان نفسه. المحبوبة هي القضية والهدف في آن، هي المنطلق والمنتهى؛ ما عداها مُجرّد ديكور في الشّريط أو كومبارس يدوسه الوْلـد في طريقه، التي لن يوقفه عن إكمالها شـرّير أو أشرار، خصوصاً في أفلام الجغرافيا (الهْنـدي). وما بين مسعى البطل، في قصّته الدّرامية، للفوز بقلب بطلته، لنا نحن، أمام الشّاشات، أن نتخيّل بطلاتنا، اللـّواتي لا تستطيع أشْجعُهنّ أن تُغامر ولو بترك حصة الرّياضات أو الفيزيكْ ولا حتى الإفلاتَ من رقابة الأمّ أو الأب أو الأخ في عطلة نهاية الأسبوع من أجل لقاء خاطف، فما بالـُك بمرافقتك إلى قاعة سينما!.. والحالُ هذه، كان هناك حلّ واحد: يتخيّل الواحدُ منّا محبوبتَه (وفي معظم الحالات يتمنى أن تكون من بنات المدرسة أو الجيران) بجسدها وابتسامتها ونهدَيْها النّافرَين وعجيزتها المكتنزة؛ يُحْضرها له خياله المنطلق وسع الشّاشة أمامه، فيفعل بها ما يريد ويشتهي.. لكنْ حين تنتهي البطلةُ في حضن البطل فيالشّاشة العملاقة ويُعلن الجينريك انتهاء الفيلم/ الْحُلْم، كنّا ننتبه إلى أنّ كل ما عشناه لم يكن سوى في خيالاتنا الجامحة؛ وأنّ هناك “وْلـدْ” واحدا في المشهد كله يعانق محبوبة من دم وعظم.. كان كثيرون منّا يفعلون أشياءَ صغيرةً بأصابعهم الخمسة وهم يتناوبون على مراحيض القاعة، وسط تعليقاتٍ بذيئة من هنا وهناك، تـُذكـّر كلّ ذاهب إلى دورة المياه بأنْ يُمتـّع نفسَه في خلوته تلك قدْرَ المُستطاع، إن أمهله الآخَرون..
لسببٍ ما، كان اسم مُوريطانيا الأكثرَ التصاقاً بالذاكرة، دوناً عن غيره من أسماء صالات الفنّ السابع في المدينة الحمراء.. الحمراء؟! آه، نسيتُ (هل نسيتُ فعلا أم كنت أودّ القفز على هذه القاعة وخنْقَ ما ارتبط بها؟!) كانت الحمراء مُختصّة في صنف مختلف من الأفلام لم يكن يُوفّره غيرها من قاعات المدينة. في هذه القاعة تحديداً، والمجاورة لـ”عْرصْة الحُوتة”، حيث كانت حوتاتٌ من نوع آخـَرَ تُباع وتُشترى، لا يُنكر أنـّه يفعل أشياءَ غريبة بأصابع يده إلا كذاب أو منافق. لم أعلم بوجودها إلا في مرحلة الإعدادي، تلك القاعة الملعونة التي أخذتنا شاشتها نحو اكتشاف مناطقَ مُحرَّمة في أجسادنا وأجسادهنّ. وقد نبتتْ لي “فُولَتان” وبعض الزّغيبات في ذقني وفي غير ذقني، هاج الجسدُ واتّقدتْ في الأحشاء رغباتٌ غريبة مُلحّة. وفي الوقت الذي يكون وْلـدْ مِن صنفٍ آخَر يستمتع باكتشاف هذه المناطق في تضاريس جسد أنثويّ حقيقي وينضح بالحياة وبحركاتٍ تفتح الشّهية، لا يكون من نصيبنا إلا التخيّل، في انتظار أن نجد، لاحقاً في أماكن منازلنا السّرية، منفذاً نصرف فيه، بطرقنا التي لا تختلف كثيراً، مخزون الطاقة الذي تكون أبدانُنا قد جمعت منه الكثير حين كان “وْلـدْ لحرامْ” يفعل أفعاله مع البْنت (بنتْ لحرامْ، حْتـّى هي، تفعل كلّ تلك الأمور العجيبة التي لم نألَف مُشاهَدتها في بْناتْ أفلام القاعات الأخرى)..
كانت أياماً جميلةً، مثلَ السّينما. “مُوريطانْيَا” كانت الأكثرَ التصاقاً بالذاكرة. ربّما لكثرة المرّات التي قصدنا فيها قاعتها العجيبة. ندفع دهماً أو درهمين من أجل متعة بلا حدود. نكتشف الآخر، كيف يعيش ويتكلم ويأكل ويُواعِد، كيف يُغازِل ويتودّد ويُغنـّي لمعشوقته؛ وفي قاعةٍ أخرى، حمراء، كيف يمارس الجنس.. فهمتُ، من أحاديث أولادْ الحومة ممّن هم في مثل عمري، أنّ الفولتين، اللـّتين اختفتا بعد أسبوع أو أسبوعين، هما من علاماتِ مرحلة أخرى من الحياة؛ وداعاً طفولتي الشقيّة، ومرحباً بالمُراهَقة. والمُراهَقة بلا سينما غير ممكنة. هي المُتنفـَّس في حيواتنا؛ نافذة للحلم، لهروب الواقع، للقفز على الكائن نحو المُمكن والتطلع إلى آفاق الآخَرين، المفتوحة على كثير من المُفاجآت الحلوة، العزيزِ مثيلها في كائننا وفي كائناته، الخشِن منها واللـّطيف، يا لطيف!.. وانضافت السّينما إلى لائحة هواياتي التي أشغل بها فراغي أو ساعات هروبي من حصص الدّراسة.. الرّيفْ، الهلالْ، مُـوريتـَانـْيـا.. يا زمانَ وصلٍ بالسّينما، بالحياة.
في المراحل اللاحقة، ستصير السّينما لحظة استثنائية من طقس أحد أيام نهاية الأسبوع. نتدبّر الدراهم اللازمةَ لولوج القاعة، بالتّكافل بيننا، ونغادر الحيّ جماعة ونحن نُردّد كثيراً كلمة السّينما واسم الفيلم والبطل كي تلتقط آذان بنات الحيّ إشارات تدلّ على أننا ذاهبون إلى السّينما.. كلما سمعنا عن فيلمٍ جديد لهذا الوْلـد أو ذاك، جمعنا أيّ سنتيم ينتهي إلى أيدينا على امتداد أسبوع أو أسبوعين من أجل قضاء ساعاتٍ أمام الشّاشة السّحرية، بوابتنا إلى أحلام مستحيلة. أتذكّر أننا قصدنا الكثير من هذه القاعات مشياً؛ لا يهمّ مدى بُعدها أو قربها من الحي، فالأهمّ، ثمنُ الورقة، في الجيب، ما عدا ذلك يهُون من أجل لحظة سينما.
كان لأبطال الهند النّصيب الأوفر من شاشات مُراهَقتنا وشبابنا. كان الوْلـد الذي يضمن لنا متعة المُشاهَدة يحمل لقب “الشّاعر”.. شاعر يصرع الأعداءَ، واحداً تلو واحد، غيرَ عابئ بتواطؤاتهم وخياناتهم ومَقالبهم. يكفي أن تعرض قاعةٌ ما ملصقا لفيلم جديد للشّاعر كي يتسابق عليها العشّاق من كلّ صوب في المدينة وحدب. كانت تثيرُني الحبكة القصصية في أفلامه وكذا الطبيعة الجميلة التي تدور فيها مَشاهدُ الفيلم الخارجية؛ تثيرُني الأغاني الرّائعة والموسيقى والرّقصات. كان شاعرا حقيقياً، لا يمكن إلا أن تعشق أفيشاته؛ وعشقتُ أفلام الشّاعر.
ورغم أنَّني لم أؤدّ يوماً في فيلم ولو دَورَ كومبارس فقد أبى أحد أصدقاء المُراهَقة إلا أن يطلق عليّ لقب “الشّاعرْ”!.. سرعان ما شاع اللقبُ بين أولاد الحومة؛ فصار كثيرون يتجنّبون مناداتي باسمي الحقيقي، مُفضّلين عليه لقبَ مُمثـّلهم ومُمثـّلي المُفضَّل.
شكراً لكِ، السّينما، لأنّك أتحتِ لي، وفي وقت مثاليّ من حياتي لم يكن الأشباه قد تناسلوا فيه بعدُ بكلّ هذه الحدّة، أن أحمل هذا اللقبَ العجيب والرّهيب في آن: الشّاعـرْ!..