عبد الرزاق بوتمُزّار
اليـومُ الـخـ5ــامس
بعـد فطور مُراكـُشيّ “ثقـيل”، صارتْ تضبط مائدتَه نكهة الأعـاصير أكثرَ مِـن الحريرة “التقليديّة”، كان لبطنِـي المسكينة موعدٌ سريع مع “أعاصيرَ” مِـن نـوعٍ خـاصّ..
كنتُ أعـرف أنّ أمعائي لا تقبل مع “أغـّـُو”* ومُشتقّاتِه مشرُوباً آخـَر.. ولأنه كانتْ من الرّايْب ثـلاثُ قنـّينات أو أربعٌ وقـارورتا عصـيرَين آخـَرَيـن فـوق المـائدة وكنتُ جـالساً فـوق كـُرسيّ وفي وضعِ المُتـحكمِ فـي رقعـة المائدة، فقد كلـّفوني، تلقـائياً، بتـولـّي مهمّـة “السّقايـة”..
ورغم أنّ مهـمّـة سقـايةِ قـومٍ صائمينِ فـي قيظِ مـدينة كمُرّاكش ليستْ سهلـة فقد وجدتُ الـوقتَ الكافيّ لإرسـالِ كـُؤوسٍ كثيرةٍ مِـن المعصورات إلى جـوفِي الفـارغ..
وبعدَ أقـلّ مِـن نصف سـاعـة، كـانتِ المعـركة فـي أمعـائي قـد اشتـدّتْ وحمى وطيسُ “أعاصيرِها”.. سـأدفـع الآنَ ثمـنَ “هُجـُومِـي” الكـاسحَ عـلى سـوائلِ المـائدة الـرّمضانية. أكثـرَ مِـن ذلك، لمْ أجـدْ مُنـاسبـاً ولـوجَ دورة الميّـاه القريبة.. نـظراتٌ وكلمـاتٌ قليلة. انسحـاب فـي هُدوء، بعـد الاتـّفاق عـلى موعد العشـاء..
كـانتِ الوِجهـة مقهـى صـديقي عبد الـرّحمان، القريبة. فـي الطـريق مـا يُشبـه الإنذار بقرب “الإعصار”.. آهٍ مِـن “أغـّو” وما اشتقّ منه واستُخرج! لو كنتُ اكتفيتُ بالسّـوائلِ الأخـرى، ولـو بالحـريرة “التـّقليدية” إياها، ما كان هـذا “حالي”!.. أتممتُ الأمتـارَ الأخيرة صوب المقهـى وأنـا أمشـي مشيـة الغـُراب، الـّذي أراد تقلـيدَ الحَمامة.. وبقيّـة القصّـة تـعرفـُونهـا.. أمّـا أنـا كـانتْ لـديّ دوافعُ أخـرى.. دفعـتُ بـاب دورة المياه وأحكمتُ إقفـال الباب، وْهات يـا “أعـاصير”!…
لـمْ أنتـهِ مِـن عصرِ مـا كان في بطني إلا وقـد تصبّبتُ عـرَقاً.. غـادرتُ المِـرحاض أخيراً. كـان عبد الرّحمان خلف كـونطوارهِ وإلى جـواره اثنان مِـن مُسـاعدِيه. كـانتْ هناك أوراقٌ في أيدِي أحدهِما وهُم يتنـاقشُـون فـي أمرٍ مَـا. حيـن رآنـِي تركَ مـا كـان يفعـل وهـبّ لاستقبـالي، بابتسامتِه العـريضة.
-عُـذراً، لقـد خـرجتُ للتـّو مِـن المـرحـاض، أنـا أتصبّب عـرَقـاً، لقـد فعلتهـا بـي اللـّبن ومُشتقّاته..
قلتُ له وأنا أهمّ بمصافحة يده الممدودة.
-لا عليـك..
قال ضـاحكا، وهـو يعـانقني ويقبّلني أربعاً. ثمّ وهـو يلتفـتُ إلى مسـاعده:
-صـاوْب للسّي عبد الـرّزاق أحسـنْ نصّ نصّ..
اختـرتُ مقعـدا خـارجَ المقهـى الشّـاسعة. فهمتُ أنّ هناك مبـاراة فـي كرة القـدم ستـُبَثّ بَعـْد قليل (بين منتخـَبَي المغرب وتـونس للاعبين المحليين). استنتجتُ ذلك مِـن إعـلانٍ تلفزيونيّ، وأيضا مِـن تصـرّفِ عبد الـرّحمان، الذي لـمْ يجدْ فرصة لمُجـالستي، كما عـادتِه كلـّما سـاقتْني قدمـايَ إلى مقهـاه. ظلّ يتابع مُستـخدَميه وهُـم يباشرُون التـّحضير لـ”المـاتـْش”. ويومُ “المـاتـْش” فـي مقاهي المغـرب يـومُ عمل شـاقّ واستـثنائيّ. حركة لا تنتهي فـي كـلّ الاتّجاهات، نقـلٌ للطـّاولاتِ والكـراسي والمظلات مِـن مكـانٍ إلى آخر، نظامٌ كـاملٌ تـُعاد صياغة جـزئياته على أمَـل تلبية طلباتِ زبنـاءِ الماتـْشات الكثيرين..
بعـد عشـر دقـائقَ مِـن مجلسي حيث كنتُ وحيداً و”مُرتـاحاً” أمـام أحد جهازي المقهى، صرتُ مُحـاطاً مِـن كـُلّ جـانب. ما من إمكان للتحرّك مِـن مكاني، ولـو إلى دورة الميّـاه. آهٍ، لـو عـادتِ الأعـاصيـرُ إلى بطني.. لكنتُ خـرقتُ كـُلّ الطـاولاتِ القـريبة، وربّمـا أسقطتُ كـؤوسا وقنـّينات فـي الطـّريق..
انطلقت المباراة وأبعـدَ الـزّبائنُ آخـرَ الصحف الـّتي ظلـوا يتبـادَلـُون تصفّحَهـا بالتّنـاوب. صحيفة لكــُلّ مقهـى.. كتـمتُ أفكـاري المُتـشفـّية حـول واقع النـّشر والقـراءة لـدى المغاربة ووجدتـُني مُجبَراً عـلى سمـاع تعليقاتِ كـُلّ هـؤلاء “المُحلـّلين الـرّياضيّين” مِـن حَـولي.. حتـّى لـو كـانتْ مباراة “بـاردة”، كمبـاراةِ ذلك السّبت ستـجد، دوماً، “فـْهايْميّـة” يُحلـّلـون كـُلّ شـيء، بـدءاً مِـن أعدادِ الجمـاهير القليلة إلى أداء اللاعبيـن وحَكـَم المباراة.. عدا ذلك، يُضحكـُنِي حُكـّامُنـا الأفـارقـة، بسيقـانِهـم الطـّويلة وملابسهم الفضفـاضة وتـحرّكـاتِهـم وطريقة عـدْوهم.. تكـون هناك، دائمـاً، تفـاصيلُ أخـرى تـُغنيني عـن متـابَعة مستـوى اللـّعب “السّخفانْ”.. ووجدتُني مُكـرَهـاً عـلى انتظـار انتهاء الشّـوط الأوّل من مباراةٍ مُملة..
متـى ستنطلـق مُبـارَاتُ اللـّيغا.. سـألتُنـِي وأنا أستغلّ أول فـرصـةٍ لمُغـادَرة مجلسي. متى تبـدأ اللـّيغا، قـلتُ لـي، كي “نغـسلَ” مُجـدَّدا عيـونـَنا مِـن “عمشِ” الكُرة هـذا الـّذي يلصقُ بهـا مِـن مشـاهَدة مثـل هـذه المبـارَيـات، الـّتي تنتهـي -فـي أغلبهـا- بـأصفـ0ــار فـي أمــور عـديدة، عَدَا النـّتيجــة..
فـِـي السّـاعــاتِ الأولى’ مِـن صبـاح اليـوم المـُوالي، سُمعتْ جُملـة آلـيّـة لمنبّهٍ كـَريه:
-C’est l’heure de se lever!.. Il est 5 heures et 50 minutes..
ثمّـة يـد ناعسة تمتـدّ من سـريـر مُصهَـد. يختنق الصّوتُ الآليّ. يقومُ الجـسدُ، نـافضاً عنـه بقـايا كسلٍ لـذيذ. تــدأ رحلـة العـودةِ إلى الـدّار البيضـاء، فـي اليـومِ السّـ6ـادس، ذاتَ رمضـان..
***
*اللبن