رشيد نيني

 

حكام الجزائر، ومن يوظفهم، يعرفون أن الإقلاع الاقتصادي في أي بلد يحتاج إلى الطاقة. فمصانع السيارات والطائرات وقطع الغيار والوحدات الصناعية التي اختارت المغرب للاستثمار تحتاج بشكل متزايد للطاقة لكي تدور محركاتها وتنتج وتخلق الثروة. والجزائر تعرف أن فاتورة الإنفاق الحكومي المغربي على الطاقة تفوق 9.9 مليار دولار سنويا.

لذلك يخطط حكام الجزائر لتطبيق سياسة أفعى الأناكوندا للالتفاف حول المغرب وخنقه طاقيا ودفعه لشراء احتياجاته الطاقية، خصوص الغاز الطبيعي، من الأسواق العالمية عوض الاستفادة من نصيبه من إمدادات أنبوب الغاز الجزائري الذي يعبر فوق ترابه.

لذلك فكل هذه التمثيليات التي صورها مؤخرا حكام الجزائر بإخراج رديء والتي اتهموا فيها المغرب بالضلوع في استهداف أمن واستقرار بلدهم كان الهدف من ورائها تغليف إلغاء اتفاقية أنبوب الغاز الجزائري الذي يمر عبر التراب المغربي نحو أوروبا بغلاف دبلوماسي.

وحتى مسرحية إحراج الجزائر لإسبانيا بجعلها تقبل استقبال زعيم البوليساريو في أحد مستشفياتها كان يدخل ضمن هذا المخطط، أي أن الهدف كان هو أن يقطع المغرب علاقته بإسبانيا وأن يكون هو من يبادر لتعليق اتفاقية أنبوب الغاز الذي يمر فوق ترابه باتجاه إسبانيا عقابا لها. سوى أن المغرب لم يسقط مع الأمطار الأخيرة ولدى ملكه من الخبرة والتجربة والحنكة ما يجعله يحسب القرارات بميزان الذهب.

ومنذ سنوات خلت والجزائر تستعد لموعد أكتوبر 2021 الذي بوصوله ينتهي العمل بالاتفاقية التي يستفيد بموجبها المغرب من نصيب من الغاز الجزائري مقابل عبور الأنبوب نحو أوروبا. ولذلك أنشأت أنبوب ميدغاز الذي يصل الجزائر بألميرية الإسبانية مباشرة، وعندما استقبل قبل أسبوع وزير الطاقة الجزائري السفير الإسباني بالجزائر طمأنه بأن بلاده ستضمن وصول إمدادات الغاز إلى إسبانيا دون مشاكل عبر أنبوب ميدغاز، مما فهم منه أن قرار الاستغناء عن الأنبوب الذي يمر عبر المغرب لم يعد سوى مسألة وقت.

المغرب فطن مبكرا إلى النوايا المبيتة للجزائر بشأن هذا الملف، لذلك خرجت بنخضرة مدير مكتب الهيدروكربونات وصرحت بأن المغرب متمسك بهذه الشراكة المغربية الجزائرية، كما لو أنها تقول لإسبانيا والشركاء الأوربيين أن المغرب ليس هو من سيقطع عنكم إمدادات الأنبوب الذي يمر عبر ترابه، وإذا حدث وأن توقفت الإمدادات عبر هذا الأنبوب فالطرف الجزائري هو المسؤول.

مباشرة بعد هذا التصريح مرت الدبلوماسية الجزائرية للتصعيد وأعلنت قطع العلاقات الدبلوماسية حتى يكون قرار استغنائها عن الأنبوب المغربي مبررا، ولو أن العلاقات التجارية بين البلدين لازالت سارية ولا يشملها القطع، خصوصا أن الميزان التجاري يميل لصالح الجزائر.

المغرب كما نعلم يكره المفاجئات ويحب، كأي دولة عريقة، أن يخطط لكل شيء بشكل مسبق ويضع كل الاحتمالات الممكنة ومعها المخارج المطلوبة. مشكل السيادة الطاقية ظل مطروحا في المغرب منذ وصول الملك محمد السادس إلى الحكم. قبل ذلك كان المغرب يستورد نحو 95 بالمائة من احتياجاته من الطاقة والكهرباء. ومباشرة بعد توليه الحكم أطلق الملك محمد السادس سلسلة من المشاريع الضخمة التي تدخل ضمن الطاقات البديلة. أنشأ حقولا على مد البصر للألواح الشمسية وأطلق غابات من المنصات الريحية ومحطات لإعادة تدوير المخلفات البيولوجية لإنتاج الطاقة النظيفة.

هكذا أصبحت اليوم حصة القدرة الكهربائية المنتجة من الطاقات المتجددة بالمغرب تصل إلى 42 بالمئة ومن المنتظر أن تصل 52 بالمئة في 2030.

ورغم ذلك فالملك لم يكن راضيا على هذا الآداء، ولهذا نفهم اليوم غضبه الذي عبر عنه يوم 23 أكتوبر من سنة 2020، بسبب تأخر الحكومة في تنفيذ برنامج الطاقات المتجددة، وقد عبر عن هذا الغضب في بيان للديوان الملكي عقب ترؤسه شخصيا بالقصر الملكي جلسة عمل خصصت لاستراتيجية الطاقات المتجددة.

مما يعني أن ملف السيادة الطاقية يقف عليه الملك شخصيا ولا يتساهل مع من يستهتر بخطورته أو يستعمل مشاريعه في مناحي أخرى غير تلك التي أطلقت من أجلها. 

المغرب أيضا وتحسبا للخطوة العدائية الجزائرية وقع عدة اتفاقيات شراكة مع شركات تنقيب عن النفط والغاز فوق أراضيه وتحت مياهه الإقليمية، خصوصا الشركات البريطانية، ومنها من أعلنت عن العثور على حقول مهمة مثلما ما حدث قبل أسبوعين عندما أعلنت شركة أوروبا أويل آند غاز، المدرجة في بورصة لندن، عن احتياطي ضخم من الموارد الغازية بسواحل أكادير، يتجاوز ملياري برميل في حقل “إنزكان أوفشور”.

وطبعا فنتائج هذه الشراكات ستظهر في المستقبل القريب. وهناك حديث اليوم في المنتديات الدولية عن مؤشرات واعدة لقرب انضمام المغرب إلى نادي الدول النفطية.

وعلى المستوى القاري يسارع المغرب الزمن لإعطاء انطلاقة بناء الأنبوب الذي سيحمل الغاز إلى المغرب انطلاقا من نيجيريا عابرا 11 دولة بغرب إفريقيا. هذا المشروع العملاق سوف يستجيب للحاجيات المتزايدة للدول التي سيعبر منها وسيصل إلى أوروبا خلال الـ 25 سنة القادمة. وهو المشروع الذي تنظر إليه روسيا بعين السخط لأنه عندما سيصل بالغاز النيجيري إلى أوروبا سيفك رقاب هذه الدول من الحبل الذي تلفه روسيا حولها بواسطة أنبوب غازها الذي تمد به أوروبا وتستعمله لابتزازها سياسيا وبسط هيمنتها. 

وطبعا عندما تتحرك الجزائر في إفريقيا مؤخرا للدعاية للمشروع الذي كانت قد تخلت عنه بعدما وقعته في أبوجا سنة 2002، نقصد خط أنبوب الغاز العابر للصحراء الذي يهدف إلى ربط حقول الغاز الطبيعي النيجيرية بأوروبا عبر شبكة أنابيب الغاز الجزائرية، فإن هدفها الأول والأخير هو عرقلة المشروع المغربي النيجيري لصالح الدب الروسي، الذي استطاع وضع مراسل صحافي روسي سابق على رأس بعثة المينورسو ومبعوثا للأمين العام الأممي في الصحراء قبل يومين.

ومحاولات الكرملين جر المغرب للرمال المتحركة للصحراء ظهر بشكل واضح بمنطقة الكركرات في الحدود بين المغرب وموريتانيا، عندما احتلت قوات البوليساريو المنطقة العازلة وبدأت تعترض طريق الشاحنات التجارية المغربية القادمة من دول إفريقيا.

وتطور الأمر إلى حد أن الحكومة الموريتانية، لأول مرة منذ اتفاقية الهدنة الموقعة بين المغرب والبوليساريو في شتنبر 1991، مكنت جبهة البوليساريو من نشر مجموعة من مقاتليها على الشاطئ الأطلسي المقابل لمنطقة الكركرات.

وكان الهدف طبعا هو جر المغرب للرد عسكريا على استفزازات البوليساريو والجزائر، غير أن المغرب لعبها بذكاء ولجأ إلى تحكيم الأمم المتحدة التي أجبرت البوليساريو على الانسحاب.

وللذين يحبون قراءة ما وراء السطور وعدم الاكتفاء بالروايات المبتسرة والسطحية للأحداث أن يبحثوا في الأسباب الحقيقية التي كانت وراء اندلاع الحرب في سوريا، فبقليل من البحث سوف يكتشفون أن أطراف الحرب السورية تتمثل في جبهة واشنطن وجبهة روسيا. ولمعرفة خلفيات كل طرف ومصالح كل واحد منهما في هذه الحرب تجب قراءة ما قاله الخبير الأمريكي ميتشل أورنشتاين الذي كتب أن «معظم الأطراف المتحاربة في الحرب السورية هي دول مصدرة للغاز، وبطريقة أو بأخرى تملك مصالح من أجل تمرير الغاز، إما القطري أو الإيراني، نحو أوروبا عبر سوريا». مما يعني أن الحرب التي اندلعت بسوريا هي حرب حول الأنابيب البترولية والغازية العابرة نحو أوربا نظرا لموقع سوريا المطل على البحر المتوسط الذي يمكنها من أن تكون جسرا مع أوربا.

ولهذا وببساطة شديدة فكل ما يمكن أن يخنق المغرب طاقيا وبالتالي اقتصاديا فإن الجزائر تخصص له الميزانيات والجهد المطلوب لإنجازه. وقد فعلت ذلك في مجال استغلال حقولها من الفوسفاط وحاولت إنشاء شركة سونتراك الفوسفاط لمجرد مزاحمة الفوسفاط المغربي في الأسواق العالمية، لكنها فشلت.

مشكلة الجزائر الوحيدة مع المغرب هي أن كل العراقيل التي تبدد المال والجهد لوضعها في طريق المغرب تفشل فشلا ذريعا، لسبب واحد هو أن الملك، وحوله رجال ثقته المقربون : فؤاد عالي الهمة، عبد اللطيف الحموشي وياسين المنصوري، لديهم نظرة مستقبلية للأحداث، ويشتغلون ضمن رؤية ملكية استباقية تعتمد على الفعل وليس رد الفعل.

وهذا يعني شيئا واحدا وهو أن الإمكانيات الطبيعية والمادية ليست هي كل شيء، هناك ماهو أهم وهو المادة الرمادية والولاء للملك والوطن والإيمان المطلق بأن هذا البلد لديه رجال يحمونه ويحبونه ومستعدين من أجل الدفاع عن عزته وكرامته حتى آخر نفس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *