عزيز اجهبلي

 

في يوم 26 يوليوز 2003، حضرت، طبعا بصفتي صحافيا، مراسم توقيع اتفاقية في قاعة الاجتماعات بالطابق الأول، أو الثاني، بمقر وزارة التربية الوطنية المجاور لباب الرواح بالعاصمة الرباط. قربت هذه الاتفاقية الوزارة الوصية من المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، وجمعتهما على كلمة واحدة، مفادها إطلاق مشروع إدراج الأمازيغية بالمدرسة المغربية، ومحاولة تجاوز الوضع الذي كانت عليه الأمازيغية منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، وتغيير طابع الاستئناس الذي وسمت به هذه اللغة في ميثاق التربية والتكوين.

وقع على هذه الاتفاقية كل من محمد شفيق العميد الأول للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ولحبيب المالكي، الذي كان على رأس وزارة التربية آنذاك، وأعتقد أن هذه الاتفاقية كانت الأولى من نوعها التي أبرمها المعهد مع قطاع وزاري مهم واستراتيجي.

وأتذكر أن كلا من الوزير والعميد، المالكي وشفيق، تملكهما نوع من الإحساس، وهما يهمان بتوقيع الاتفاقية بما أنها عقد لاتخاذ قرار مصيري يهم قطاعا وازنا، وشريحة اجتماعية واسعة وكبيرة، والأكثر من ذلك، أنه متعلق برافد أساسي من روافد الهوية المغربية. إنه فعلا قرار يعني أولا وأخيرا الوطن بكامله.

إن شعور الوزير والعميد بذلك الإحساس أمر طبيعي جدا، لا سيّما أن الاثنين استشعرا حجم اللحظة المفصلية وهما يقدمان على قرار من هذا القبيل، خاصة أنه مرتبط بأحد الخيارات الصعبة التي دشنت بداية القرن العشرين في المغرب. المسؤولان لم يستسلما للإحساس الذي راودهما، لكن الحذر كان باديا عليهما، وربما الأفكار والأسئلة التي دارت في مخيلتيهما كثيرة ومتناسلة. ويمكن لنا أن نتخيل نوع تلك الأسئلة التي سيطرت عليهما في تلك اللحظة، وقد يكون واحد منها: من المسؤول إذا لم ينجح المشروع؟

الحذر كان باديا على الطرفين، ظهر ذلك من خلال الكلمات التي ألقيت بالمناسبة. الوزير تحدث عن دقة المرحلة، وعما يجب على كل طرف القيام به طبقا لبنود تلك الاتفاقية. الكلمات التي تبادلها المالكي وشفيق، ولو أنها كانت مطبوعة بنوع من اللباقة، حملت في ثناياها رسائل مشفرة وأخرى واضحة للعيان. ومن العبارات التي مازلت أذكرها، قول المالكي: “إنه لا حق لنا في الفشل”، وكأن الوزير يتكهن بأن المستقبل يخبئ الكثير لهذا المشروع. أما العميد شفيق، مازلت احتفظ له بعبارة مسكوكة، تفيد أن “الفلاح رهين بالتفاؤل”.

في تلك الأزمنة، تداول مسؤولو المعهد والوزارة إمكانية البدء ب 317 قسم تدرس فيه الأمازيغية، موزعة على التراب الوطني على أمل الوصول إلى تعميم تدريسها أفقيا وعموديا في المستوى الابتدائي تحديدا خلال الموسم الدراسي 2007/2008. هل تم ذلك؟ الله وحده يعلم.

لا أريد أن أسرق من وقتكم بالوقوف عند السياق الاجتماعي والسياسي، الذي ميز لحظات ما قبل دستور 2011، لكن الأهم في كل هذا وذاك، فيما يخص الأمازيغية، هي المادة الثانية من الفصل الخامس من الوثيقة الدستورية، التي تنص صراحة على أن الأمازيغية لغة رسمية في المغرب الى جانب العربية، بالرغم من أن هذه الرسمية اشترطت بقانون تنظيمي لم يعرف النور إلا بعد مرور عقد من الزمن تقريبا على صدور دستور أجمع المغاربة قاطبة على مضامينه.

المهندسون الذين كانوا وراء وضع القانون التنظيمي المتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، الذي صدر في الجريدة الرسمية بتاريخ 26 سبتمبر 2019، كانوا على يقين بأن ولادة هذا القانون قيصرية، وعن قصد وضعوا لذلك برمجة زمنية قد تصل إلى ثلاثين سنة أخرى، حتى لا يتم تنزيل هذا المقتضى الدستوري بالشكل المطلوب والحقيقي، ويمكن لعامل الزمن أن يعطل من تفعيل ما تم التنصيص عليه في هذا القانون التنظيمي.

إنه إجراء مخادع، وكأنه استند إلى نظرية “بروكست” المنسوبة إلى الأسطورة الإغريقية. بروكست” هذا كان يتربص بالمسافرين المارين عبر الطريق الرابطة بين أثينا اليونانية وإيلوسيس، ويمارس عليهم تعذيبا بالغ الغرابة، بحيث لم يكن ل”بروكست” سوى سرير واحد، غير أنه كان سريرا خاصا لا مثيل له في شكله ومقاسه؛ وكان “بروكست” يعتمده في عمليات التعذيب التي يقوم بها، حيث إذا وجد شخصا أقصر من السرير، فإنه يقوم بتمطيط جسده حتى يطول ويستوي على مقاس السرير، أما إن كان المسافر من طوال القامة يمدده على السرير الصغير ثم يقطع رجليه.

في قضية الأمازيغية، حكومة الاستاذ بن كيران أتت بالسرير، وحكومة العثماني مططت جسد الأمازيغية ليستوي على مقاس السرير.

*كاتب/صحفي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *