ترسخ في عقول الكثير من المغاربة، ومن ضمنهم سكان مدينة أكادير، إلى جانب السياح الذين يفدون كل سنة بمئات الآلاف على هذه الوجهة، بكونها مدينة حديثة وعصرية، تختلف عن باقي المدن المغربية التي تشهد مآثرها التاريخية، ومبانيها العتيقة على ماضيها التاريخي الذي يؤشر على أنها ضاربة بجذورها في عمق التاريخ.

ومرد هذه القناعة راجع بالأساس إلى كون أكادير، المعروفة بمدينة “الانبعاث” أعيد بناؤها مطلع الستينيات من القرن الماضي بعد الكارثة الطبيعية للزلزال الذي ضرب المدينة ليلة 29 فبراير من سنة 1960، والذي أتى على أحيائها العتيقة بالكامل ، ولم تسلم منه إلا البنايات الاسمنتية ،إلى جانب جزء يسير من موقع “أكادير أوفلا” ، المعروف أيضا لدى ثلة من المثقفين ب “أكادير إغير”.

فقد ظل هذا الحصن الاستراتيجي الرابض فوق تلة جبلية تطل على المحيط الأطلسي طيلة ما يزيد على ستة قرون يحتل أهمية كبرى كميناء منفتح على العالم، ومنفد للطرق القارية الرئيسية، وحلقة وصل تربط الصحراء بأوروبا وأفريقيا وآسيا، طبقا لما أوردته العديد من المصادر التاريخية، حيث تم تصنيف القصبة كتراث تاريخي مغربي سنة 1932 ، إلا أن الزلزال الرهيب لسنة 1960 أتى على الموقع الذي غدا منذ ذلك الوقت عبارة عن أطلال .

وبعد مرور ستين عاما على الهزة الأرضية الرهيبة، تقرر منح هذا الموقع، المشحون بالرمزية في تاريخ المغرب، حياة جديدة، وفي إطار من الاحترام الكامل للبروتوكولات الدولية المنظمة للتدخلات التراثية بعد الكوارث، ومن أجل فتح الموقع أمام الزيارة والترحم على الضحايا، حيث تقرر إدراج ترميم وتأهيل قصبة “أكادير أوفلا” ضمن مشاريع برنامج التنمية الحضرية لمدينة أكادير للفترة 2020-2024.

استعادة الذاكرة

وأفاد مصدر مسؤول ب”شركة التنمية الجهوية للسياحة سوس ماسة “، المشرفة على تنفيذ هذا المشروع، أن عملية إعادة تأهيل قصبة “أكادير أوفلا” تهدف، على وجه الخصوص، إلى “تمكين هذا الموقع من استعادة ذاكرته وتعزيز جاذبيته وضمان ولوج أكبر عدد ممكن من الزوار إليه في أحسن الظروف … وذلك بما يجعل من هذه القصبة مرحلة أساسية في زيارة المدينة”.

وحتى تتم هذه العملية وفق شروط علمية مضبوطة، وفي احترام تام للمعايير المطلوب التقيد بها في تنفيذ مشاريع من هذا القبيل، تم منذ شهر شتنبر 2017 إطلاق عملية تشاور وتعبئة مع الأطراف المعنية، حيث تمت استشارة المجتمع المدني، والناجين من كارثة الزلزال وذوي الضحايا، والجمعيات الثقافية بالمدينة، في إطار ورشات عمل ولقاءات منظمة لهذا الغرض. واستمرت هذه الاجتماعات لأكثر من عامين تخللتها مؤتمرات دولية في دجنبر 2018 ودجنبر 2019 للمسؤولين المعنيين بما فيهم الجهويين والجماعيين، وممثلي المجتمع المدني لوضع رؤية مشتركة تضمن النجاح لإعادة تأهيل الموقع وتثمينه.

وتجدر الإشارة في هذا السياق، إلى أن المشروع اعتمد على بروتوكول علمي متعدد التخصصات (أخصائيون في علم الآثار، والتاريخ والأنثروبولوجيا والمهندسون المعماريون والمهندسون المدنيون)،وفقا للمبادئ العلمية والتشاركية، مع تعبئة أحدث تقنيات الرقمنة في التوثيق و الحفظ.

وأوضح عبد الكريم أزنفار، مدير” شركة التنمية الجهوية للسياحة سوس ماسة “، التابعة لمجلس جهة سوس ماسة، أن مشروع استعادة قصبة “أكادير أوفلا” يعتمد على مبدأ “الاسترداد”، أو العودة إلى الوضع السابق للقصبة، بما في ذلك إعادة بناء الأماكن الرمزية في القصبة والتي لها معنى في تاريخها، طبقا للمواصفات الأصلية التي كان عليها الموقع سنة 1960 .

وفي هذا السياق فإن إعادة التأهيل ـ يقول أزنفار ـ تتضمن “إنجاز اشغال تخص ترميم جميع الأسوار والمدخل الوحيد للقصبة، مع الحفاظ على فضاءات الدفن الداخلية التي كانت في الأصل هي المناطق المأهولة وذلك قبل أي تدخل، ثم توثيق توالي عمليات البناء وفق العصور المختلفة، بشكل دقيق لفك وتحديد سلسلة التدخلات التي تمت خلال مختلف الحقب التي عرفتها القصبة عبر تاريخها، ولا سيما بعد الحروب المتتالية، و زلازل القرن الثامن عشر وسائر مراحل إعادة الإعمار المختلفة التي تلت ذلك”.

الترميم و التأهيل

وبخصوص تنزيل عمليات الترميم وإعادة التأهيل، فقد انطلقت هذه الاشغال ابتداء من فاتح يونيو 2020 بدراسة أثرية شاملة للأجزاء التي سيتم ترميمها من خلال استعمال التقنيات المعاصرة الخاصة بعلم آثار المباني التراثية المفقودة، ولا سيما التحصينات.

وحسب المعطيات المتوفرة لدى “شركة التنمية الجهوية للسياحة سوس ماسة”، فقد كرست أسابيع العمل السبعة الأولى (بين فاتح يونيو و23 يوليوز 2020) للحفريات الوقائية والعينات ذات الصلة، فضلا عن عمليات المسح في المناطق المحيطة لضمان بدء ترميم الأسوار بتوثيق مسبق كامل. كما تم بتاريخ 30 يونيو 2020 تفكيك نصب اللوحة التذكارية(stèle) المكتوبة باللغتين الهولندية والعربية على الرخام الأبيض، بتاريخ 1746، والتي صمدت في وجه عوامل الزمن منذ ذلك التاريخ.

أما بخصوص الأشغال التي انطلقت في غشت 2020، فهمت المرحلة الأولى من ترميم الأسوار والتي ستنفذ على مرحلتين. ومن المقرر أنه بمجرد إتمام عملية ترميم الاسوار، سيتم تثبيت منصة خاصة بالزيارة تمكن من الفهم الكامل لكل حلقة من حلقات تاريخ الموقع الاثري، علاوة على توفير إطلالة شاملة على المحيط أو المدينة، فضلا عن حماية التنوع البيولوجي الخاص بالموقع. ووضع نصب تذكاري بين المدافن التاريخية الثلاثة للقصبة، لاستقبال الجمهور الذي يود، في نهاية المسار، الترحم على ضحايا زلزال أكادير.

الباب المدفون

وإلى حدود يوم أمس الاربعاء،(14 أكتوبر 2020) فقد أسفرت الحفريات التي ما زالت متواصلة تحت إشراف فريق من الأركيولوجيين من المغرب وإسبانيا، على رأسهم البروفيسور مبروك الصغير، الأستاذ الباحث بالمعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث، عن إزالة الأنقاض عن المدخل الرئيسي للقصبة الذي لا زالت بوابته الضخمة السميكة مثبتة بطرفيه ، وهي مكونة من جزأين، أحدهما كغلق، والآخر مشرعا على النصف، حيث بقي على هذه الحالة منذ ليلة الزلزال، وقد لحقت بها بعض الأضرار بفعل بقاء البوابة تحت الأنقاض لمدة 60 سنة، مع ما تخللها من تسرب لمياه الأمطار.

ومن الأكيد أن إتمام هذا المشروع، علاوة عن كونه سيمكن مدينة الانبعاث من استعادة جانب مهم من ذاكرتها التاريخية، فسيشكل إضافة نوعية للمؤهلات السياحية لمدينة أكادير، التي لن تبق الوجهة السياحية الشاطئية الأولى على الصعيد الوطني فقط، بل ستصبح أيضا وجهة سياحية ذات مؤهلات تاريخية عريقة تتكامل مع المقومات التاريخية والحضارية الأخرى المتوفرة في العمق الترابي لوجهة أكادير، خاصة في أقاليم ومدن تارودانت وتيزنيت وطاطا.

أكادير – حسن هرماس(لاماب)

 تصوير: محمد السلامي(le12.ma)

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *