في هذا الحوار الحصري، يشرح ألان رولا، المسؤول التحريري السابق و”العلبة السوداء” لصحيفة “لوموند”، أسباب وخلفيات التراجع الملحوظ في موقع وإشعاع ومكانة هذه الصحيفة الفرنسية العالمية، التي أصبحت مجرد ظل لما كان بالأمس والتي تتعيّش اليوم على ذلك “المجد العتيد” الغابر.
يأتي هذا الحوار الحصري في سياق زمني وسياسي ملغوم بسلسلة من المقالات التشهيرية ضد المغرب وضد رموزه ونظامه السياسي، وقد بادرت جريدتنا إلى تحمّل مسؤوليتها ورسالتها الإعلامية في تنوير الرأي العام الوطني والدولي ووضعه في صورة الانحرافات التحريرية، التي ارتكبتها صحيفة “لوموند” من خلال عدة مواد إعلامية.
ذلك ما ستعرف عليه أكثر، مع واحد من أبرز وجوه الصحافة الفرنسية والدولية، هو ألان رولا، (Alain Rollat)الذي شغل مناصب عليا ومواقع مؤثّرة داخل هذه اليومية الفرنسية، التي كانت تعتبر، في ما مضى، منبرا مرجعيا في الصحافة العالمية.
ويشرّفنا أن ننعت هذا الحوار بـ”الحصري” لمكانة وموقع الرجل وتاريخه الكبير في الصحافة المكتوبة الفرنسية، إذ نجح ألان رولا في بناء مسيرة مهنية لامعة داخل “لوموند” على مدى ربع قرن، من سنة 1977 إلى سنة 2001… تقلد خلالها مسؤولية رئيس التحرير.
وألان رولا حاصل على دبلوم من المدرسة العليا للصحافة ومن مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية، وقد عمل ضمن هيئة تحرير صحيفة “Midi Libre”، قبل أن ينضم إلى صحيفة “Le Monde” سنة 1977. من هذا التاريخ، وإلى حدود سنة 2001، شغل ألان رولا العديد من المناصب: نائب رئيس قسم الشؤون السياسية، ورئيس قسم الإعلام والاتصال، ورئيس تحرير مجلة “لوموند” المتخصصة في التربية “Le Monde de l’éducation”، وكاتب عمود، ومستشار الإدارة، وعضو مجلس “جمعية المحررين”، ومندوب نقابي لدى CGT.
كما تولّى أيضا نفس المهمة، التي كان يتولاها كتابة في “لوموند” (chroniqueur)، لكن هذه المرة في إذاعة “راديو فرانس” (Radio France)، من خلال قسم “France Culture”، كما نشر عدة مؤلفات سياسية، بعضها بالاشتراك مع إدوَي بلينيل، الصحافي السابق والبارز بـ”لوموند”.
غادر ألان رولا صحيفة “لوموند” سنة 2001، حيث كان يمثلها، في ذلك الوقت، في مجلس الرقابة لمجموعة “Midi Libre” ويتولى إدارة صحيفة “Centre Presse” اليومية الصادرة في منطقة أڤيرون.
وفي خضمّ هذه المهام، التي استغرقت 24 سنة متصلة، جرى اعتماد ألان رولا من قبل “لوموند”، كذلك، مراسلا لدى كل من قصر ماتينيون (رئاسة الحكومة) وقصر الإليزيه (رئاسة الدولة)، وعايش أبرز التحولات المهنية والإعلامية داخل “لوموند”، وقام بعدة محاولات إصلاحية لتعود “لوموند” إلى نفسها، وهويتها، ومرجعيتها التأطيرية، قبل أن يتبيّن له أن كل مبادراته آلت إلى الحائط وانتهت إلى الانسداد، وأن “لوموند” تمضي قدما إلى فقدان ألقها وموقعها وإشعاعها قبل أن يصل الوضع إلى مستوى “خلافات استراتيجية” مع إدارة “لوموند”، فآثر مغادرة الصحيفة، وقد شرح أسباب هذا “الرحيل القاسي” مع صحيفة احتك بمؤسسيها الأوائل، ورضع منهم حليب المهنية والاستقلالية والنزاهة والموضوعية، حيث كان القرار داخلها يتخذ بمهنية، من قبل “جمعية المحررين”، التي اتخذت، غير ما مرة، قرارات متنافية مع بعض المساهمين المالكين للصحيفة، وهذا وغيره ما أوضحه في كتابه “Ma Part Du Monde” (نصيبي من “لوموند”) الصادر سنة 2003، والذي تعرض للرقابة من قبل إدارة الصحيفة.
في هذا الحوار الحصري، يعترف ألان رولا، بمرارة، بتأثير المصالح السياسية والمالية على صحيفة “لوموند”، إذ تقلصت استقلاليتها بشكل كبير، وتآكلت ركائز قيمها إلى درجة أن مدير الصحيفة، الذي لم يكن يتدخّل حتى في مجرد تشغيل رؤساء الأقسام للمحررين، أصبح قادرا على تسويق معطيات وحجب أخرى بصورة تجرّد الصحيفة من هالتها الأسطورية ومن قواعدها المؤسسة، دون أن يثير ذلك أي انزعاج يذكر لدى زملائه الذين انتخبوه مديرا! ذلك وغيره، مما له صلة، هو ما سنتعرف عليه في هذا الحوار الحصري.
لنتابع…

أجرى الحوار: محمد سليكي
رئيس تحرير “Le12.ma”
كيف يمكنكم وصف مساركم المهني في جريدة لوموند، منذ بدايتكم الأولى إلى حين مغادرتكم سنة 2001؟.
“في الواقع، لقد حظيت، بفضل “لوموند” بأجمل مسيرة مهنية يمكن أن يحلم بها أي صحافي من جيلي. فقبل خمسين سنة، كانت الصحافة المكتوبة هي التي تصنع الرأي العام، وتحدد اتجاهات المشهد الإعلامي. كما كانت “لوموند”، في تلك السنوات، تمارس نفوذا كبيرا، وكان خطها التحريري مؤثرا على مختلف مراكز القرار، وكذلك الشأن بالنسبة لإمبراطورية روبير إيرسان وواجهتها الرئيسية صحيفة “لوفيغارو”، دون أن يكون لهما منافس آخر. ولم تكن استقلالية “لوموند” التحريرية محل شك، لأن هذه الجريدة، التي أسسها هوبير بوف-ميري سنة 1944، كانت مملوكة لصحافييها المنضوين في “جمعية المحررين”، التي كانت تملك سلطة اختيار مدير الجريدة بحرية تامة، وكذلك مسيّر المؤسسة.
لقد كانت “لوموند”، لوحدها، تجسّد، في فرنسا المنقسمة ثنائياً في عهد الجمهورية الخامسة، صوتَ الأفكار المتمرّدة في وجه النزعات المحافظة والجمود العقائدي، وكانت مرجعا في فرنسا والخارج، لأن صحافييها الذين كانوا يشكلون نخبتها، كانوا بالفعل من أفضل المهنيين المحترفين المكرَّسين لخدمة حق الناس في الحصول على معلومة حرة مستقلة، ودقيقة، إلخ… وبالتالي، فإن دخولي إلى جريدة “لوموند”، بالنسبة لمبتدئ مثلي بدأ مسيرته في الصحافة المحلية، كان بمثابة دخول إلى أقدس محراب في عالم الصحافة.
لقد دخلت إليها سنة 1977، كما يدخل المؤمن إلى كاتدرائية أو مسجد بإجلال، وهناك عرفت بصدق مختلف أشكال المتعة المهنية، إذ مارست مختلف أنماط الكتابة وأشكال التعبير في شتى الأجناس الصحفية بحرية تامة. كما تولّيت كل المهام من أبسطها إلى أرفعها”.
“سقطت “لوموند” في تسطيح المحتوى بشكل عميق…. أنا آسف اليوم لعدم تدخلي الفوري”

في رأيكم، ما هي التحولات التحريرية الأكثر بروزا التي عايشتمونها من الداخل؟.
ّفي الواقع، ما كان يمنح القوة الفكرية لصحيفة “لوموند”، في عهد مؤسسها هوبير بوف-ميري (Hubert Beuve-Méry)، ثم خلفائه الأوائل جاك فوفي (Jacques Fauvet) وأندريه لورانس (André Laurens) وأندريه فاونتين (André Fontaine)، هو جودتها المهنية العالية في معالجة جميع الحقول الإخبارية.
يعود الفضل في هذه الجودة إلى تنظيم هيئة التحرير في أقسام مستقلة، فكل قسم كان تحت قيادة شخصية قوية ذات كفاءة واضحة، تتمتّع بسلطة كاملة على فريقها التحريري، بما في ذلك صلاحية تشغيل صحافيين جدد من دون إذن مسبق من مدير الجريدة. وأنا شخصيا جرى تشغيلي مباشرة من قبل رئيس القسم السياسي ريمون باريون (Raymond Barrillon)، سنة 1977، من غير أن أقابل مدير الجريدة جاك فوفيه.
لقد كان لصحيفة “لوموند”، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أسلوب عمل نخبوي، ذو طابع إقطاعي إلى حد ما.
ويظهر ذلك في كون كل قسم كان يشكل إقطاعية لا تُحاسَب إلا بعد إنجاز العمل. وكانت كل واحدة من هذه “الإقطاعيات” تتألف من رؤساء أقسام، الذين كانوا صحافيين مُلزَمِين بالتميّز في معرفتهم ومهاراتهم، وبكونهم الأكثر اطلاعاً، والأكفأ، والأدق، والأكثر موثوقية في معالجة ومتابعة الملفات المكلفين بها.
وبالنسبة لي شخصيا، على سبيل المثال، فقد عُيّنتُ في القسم السياسي لأصبح مراسلا معتمدا لدى الوزير الأول (رئيس الحكومة -المحرر)، لكن سرعان ما كُلّفت أيضاً، وفي الوقت نفسه، بمتابعة ملفات أخرى لا علاقة لها مباشرة بمهمتي الأصلية: ملفات الأحزاب اليمينية المتطرفة، وأقاليم ما وراء البحار (مناطق تابعة لفرنسا في قارات مختلفة -المحرر)، والسلطات المحلية، والعائدون من الجزائر…
لقد بذلت كل طاقتي في عملي، ساعياً إلى تحقيق درجة من الخبرة في إدارة كل ملف تكون أقرب ما يكون من أقصى درجات التميز. وكان القراء يقدّرون هذا المفهوم للصحافة. وفي الواقع، لم يكن المحتوى التحريري لـ”لوموند” يوماً أفضل مما كان عليه في تلك الفترة. لقد كانت المبيعات اليومية للصحيفة، في الثمانينيات، تتراوح بين 800 ألف ومليون نسخة.
وللإجابة، بشكل مباشر على سؤالكم، دعني أقول إن أكثر التحولات التحريرية تأثيرًا، التي عشتها داخل صحيفة “لوموند”، كانت إعادة النظر في تنظيم هيئة التحرير. وقد حدث ذلك بعد فترة وجيزة من تولي جان ماري كولومباني (Jean-Marie Colombani) مهام إدارة الصحيفة، وهو الذي كنتُ، مع بعض الزملاء، قد دعمتُه لتولي هذا المنصب، وقد حكيت ذلك في كتابي “Ma Part Du Monde” (نصيبي من “لوموند”)، وهو عمل نقدي ذاتي نشرته سنة 2003.
لقد تحجّج هذا المدير الجديد، الذي انتخبناه، بذريعة الحداثة، ليقرّر إحداث هذا التغيير على مرحلتين.
بدأ الأمر عندما تم تحويل الأقسام في هيئة التحرير إلى فرق (أو تسلسلات Séquence -المحرر)، فحلّ “فريق فرنسا” محل “القسم السياسي”، كما حل “فريق الدولي” محل “القسم الأجنبي”.
حدث ذلك دون أن يدرك الجميع، في حينه، أن هذا التغيير اللغوي يغيّر ترتيب القيم المؤسسة للصحيفة، لأنه أخضع تنظيم الأقسام التحريرية لمفهوم يُستخدم عادة في إنتاج الصور.
لقد كانت “لوموند” تخرج من ثقافة الكتابة لتدخل إلى ثقافة الصورة. هذا التركيز على الشكل على حساب المضمون كان بمثابة مؤشر أولي على تحوّل الجريدة إلى مُنتَج إعلامي. بعد ذلك، استغلّ مدير التحرير الجديد، إدوِي بلانيل (Edwy Plenel)، هذا التغيير ليُحدث اضطرابًا كاملًا في طريقة عمل الأقسام التقليدية، وليستأثر بصلاحية تعيين رؤسائها والتدخّل في تشكيل فرقهم.
في الحقيقة، تم تفكيك “الإقطاعيات”، واستُبدل “البارونات” بمسؤولين يخضعون لمدير التحرير، وطُلب من “رؤساء الأقسام” مغادرة اختصاصاتهم ليتحوّلوا من صحافيين مختصين إلى صحافيين عامّين. الأمر الذي أدّى إلى تسطيح محتوى الجريدة بشكل عميق.
وأنا آسف اليوم لعدم تدخلي الفوري للحيلولة دون إحداث هذا التغيير”.
هل كنتم تتوقعون أن تصل “لوموند” إلى الوضع الحالي؟.
ّللأسف كل ما توقعته حدث مباشرة بعد مغادرتي وتأكد بالوقائع، وقد دفع زميلاي، آنذاك، إدوي بلتيل وجان ماري كولومباني، الثمن غاليا. فقد اضطر الأول لمغادرة الصحيفة سنة 2005، والثاني طرد بعد أن رفضته “جمعية المحررين” في سنة 2007. لقد تنبأت لهما بهذه النهاية الحزينة…
في كتابكم “حصتي من (لوموند)”، تشرحون أنكم غادرتم الجريدة بسبب “خلافات استراتيجية” مع الإدارة. هل يمكنكم أن توضّحوا لنا أكثر هذه الخلافات؟.
يمكن إجمال هذه الخلافات في نوعين. أولا كنت على خلاف مع جان ماري كولومباني بشأن الاستراتيجية الواجب اتباعها للحفاظ على استقلالية “لوموند”.
فعلى الرغم من زيادة توزيع الصحيفة، وتنامي مواردها الإعلانية، ورغم تجهيزها بمطبعة جديدة، بقيت “لوموند”، في تسعينيات القرن الماضي، آلة لإنتاج العجز بسبب الارتفاع المتزايد في تكاليفها الثابتة.
لقد سبق أن اقترحت تبني سياسة صارمة في ما يخص الرواتب والتشغيل، لكي تتمكّن هذه الآلة، مجدّدا، من إنتاج الأرباح.
لقد كنت أحلم بإعادة تأسيس “لوموند” على أساس سليم يؤدي إلى تحسين مستمر. لكن جان-ماري كولومباني اختار، استجابةً لنصائح سيئة من آلان مينك، المضي قدمًا وبلا تروٍّ، متبنيًا استراتيجية توسعية جعلت من الصحيفة “السفينة الأم” لمجموعة صحفية تتألف من صحف ناجحة، كان يكفي شراؤها -بالاقتراض!- لسد ثغرات “السفينة الأم” باستخدام مواردها المالية”.
لقد كنت أعلم أن اللجوء إلى هذا النوع من “طوق النجاة” لن ينقذ سفينة “لوموند” من الغرق. كان هذا مؤشراً على الأسوأ، والأسوأ حدث بالفعل.
النوع الثاني من الخلاف، كان ذا بعد شخصي، إذ عندما أصبحت “لوموند” مالكة للصحف الثلاث التابعة لمجموعة “Journaux du Midi” (صحف الظهيرة)، وهي: “Midi Libre” (الظهيرة الحرة)، الصحيفة التي بصمت بداية مسيرتي المهنية، و”L’Indépendant des Pyrénées-Orientales” (المستقل لمنطقة بييرينيه الشرقية)، و”Centre Presse” (مركز الصحافة) وهي الصحيفة اليومية في إقليم أفيرون، قبلتُ تولّي إدارة الأخيرة بشرط واحد: وهو أن تواصل هذه الصحيفة الاستفادة من مطبعتها الخاصة الواقعة في إقليم روديز (عاصمة الإقليم هي مدينة أفيرون -المحرر)، وذلك بهدف تحسين مبيعاتها.
وعندما علمت أن “رفاقي الصغار” كانوا يخططون، من خلف ظهري، لإغلاق هذه المطبعة، شعرت بالخيانة، واتخذت ما يمليه علي ضميري.
“كلما غاصت “لوموند” في الصعوبات المالية والاقتصادية
كلما أصبحت أكثر عرضة لطموحات القوى المالية للسيطرة عليه”
تؤكدون أن إدارة “لمونود” أفرطت في تبديد المبادئ المؤسسة للصحيفة، ما هي هذه المبادئ تحديدا؟.
“لقد كانت هي المبادئ، التي أسس عليها هوبير بوف-ميري صحيفة “لوموند” سنة 1944. وكان أول تلك المبادئ هو الرفض التام لوضع صحيفة “لوموند” تحت رحمة قوى المال.
هل كانت مغادرتكم خيارا شخصيا أم نتيجة لمأزق داخلي؟.
“في الحقيقة كان اختيارا شخصيا، وقد كان مؤلما، وأعتبره جرحا سأظل أحمل ندبته دائماً. ولن أسامح نفسي أبدا على انتمائي لذلك الجيل من صحافيي “لوموند”، الذي عجز عن الحفاظ على الإرث الذي تسلّمه من مؤسس هذه الصحيفة”.
طيب، دعني أعود لوسحمت الى مؤلفكم “حصتي من (لوموند)” الذي صدربعد مغادرتكم الصحيفة. ليكون السؤول ما الذي دفعكم الى تأليف هذا المؤلف؟.
“لقد، كان الدافع هو الحاجة إلى أن أترك شهادة مباشرة، نقدية للذات، وبالتالي شهادة صادقة لزملائي، وكذلك للمنضمين الجدد إلى هيئة تحرير “لوموند”، وكذا للمؤرخين المعنيين بالصحافة”.
تقولون إن كتابكم تعرض، حسب رأيكم، للرقابة أو للطمس من قبل إدارة “لوموند”، كيف عشتم هذه التجربة؟.
“عندما أقول ذلك، فأنا لا أقوم بتفسير الأمور على هواي، ولا أعيد كتابة التاريخ بطريقتي أو حسب رأيي، وإنما هو واقع مثبت، وعام، ويمكن التحقق منه بسهولة من خلال أرشيف الصحيفة.
كان جان-ماري كولومباني غاضبًا من محتوى شهادتي التي لا يمكن دحضها، لقد منعني من الكتابة في أعمدة الصحيفة، ولم يعترض على ذلك إدوِي بلانيل، رغم أنه كان يستطيع ذلك بصفته مدير التحرير.
لقد حوّلتني وضعية “الطمس من الذاكرة” (Damnatiomemoriae)، التي لحقتني، إلى حالة فريدة: أصبحت الصحافي الوحيد في “لوموند”، الذي كتب كتابًا عن “لوموند”، وتمت مصادرته من قبل “لوموند” نفسها…”.
لو فكرتكم في نشر نسخة جديدة، هل كنتم ستضيفون إليها فصولا أو شهادات جديدة؟.
“لن تكون هناك نسخة جديدة من كتاب “حصتي من (لوموند)”، لكنني تناولت في كتابي الأخير بعنوان ” Mémoires du centre du Monde” (مذكرات من قلب “لوموند”)، الصادر سنة 2024، عن دار النشر “Cap Béar Edition“، تعليقاتي على ردود الفعل التي أثارها صدور كتابي السابق من قبل زملائي القدامى “رفاقي الصغار”، وأروي فيه، وأنا أضحك، كيف حاول جان-ماري كولومباني، بلا جدوى، في كتاباته الخاصة، بعد مغادرتي جريدة “لوموند”، طمس دوري إلى جانبه، بل وحتى وجودي المهني.
أقول كانت محاولة، “بلا جدوى” لأن خلفاءه على رأس الجريدة لم يُخدعوا بذلك. فقد أعادوا، بطريقة ما، “إحياء” ذكري. وكان من دواعي سروري الكبير، الممزوج بالحنين، أن أقبل دعوتهم لإعادة التواصل مع قراء الجريدة، في سبتمبر 2024، خلال المهرجان السنوي لـ”لوموند”.
جاءت تلك الدعوة بمثابة تكريم لمسيرتي، التي امتدت 25 سنة في خدمة الصحيفة من 1977 إلى 2002، وأيضا بمثابة صفعة رمزية موجّهة إلى أولئك الذين سعوا يومًا إلى إسكات صوتي وحجب أثري”.
أشرتم في كتابكم، إلى أن الاستقلالية التحريرية للصحيفة ضعفت بشكل كبير بعد 2001، كيف تفسرون ذلك؟.
“كلما غاصت “لوموند” في الصعوبات المالية والاقتصادية، كلما أصبحت أكثر عرضة لطموحات القوى المالية، التي ظلت تأمل، منذ زمن طويل، في السيطرة عليها. وهذا التهديد كان بمثابة “سيف ديموقليس” مسلط على رقبتها، وكان يجعل هيئة التحرير، أحيانا، ترتاب في اختياراتها، ويُربك توازنها، ويجعلها تتردّد في سلامة نهجها التحريري. فأصبحت أكثر عرضة للتأثيرات الخارجية، واهتزّت لحمتها الداخلية… ونتيجة لذلك، كانت الصحيفة تفقد، تلقائيا، قراءها، تماما كما كانت تفقد مجدها…
وقد سرّعت التغييرات المتعددة في هيكلها التنظيمي من السقوط في هذا المآل، إلى أن جاء الوقت الذي وجدت فيه صحيفة “لوموند” نفسها، بعد أن تخلى عنها مَصرفها الخاص، ومن أجل البقاء على قيد الحياة، مُجبرة على أن تُباع لرجال أعمال لم تكن مصالحهم، بالضرورة، متوافقة مع مصالح صحافييها… وحين تصبح صحيفة ما ملكًا لقوى مالية، فإنها تتحوّل، بحكم الواقع، إلى صحيفة تحت النفوذ، وتصبح استقلالية صحافييها خاضعة لهذا النفوذ بشكل حتمي…”.
هذا يحيلنا الى التوجه اليكم، بسؤول ماهي تنائح فقدان صحافيو لوموند حق انتخاب مديرهم بحرية؟.
“في الواقع، جميع عمليات إعادة الرسملة، التي تمت منذ سنة 1995، مكّنت صحيفة “لوموند” من الاستمرار، بل وإعادة الانطلاق، حتى أنها أصبحت اليوم مهيمنة في مشهد الصحافة الإلكترونية الإخبارية، لكن هذه العمليات جاءت مصحوبة بتغييرات قانونية أفقدت “جمعية المحررين” من وضعها كمالك رئيسي، وبالتالي فقدت القدرة على اختيار وانتخاب مدير الصحيفة بحرية كاملة.
في سنة 2010، لم يكن لـ”جمعية المحررين”، الذين اجتمعوا جميعهم ضمن ما يُسمّى “قطب الاستقلال”، سوى نسبة 25% من الوزن الفعلي. عمليًا، عندما يتعلق الأمر بتعيين مديرهم، لم يعد لدى صحافيي “لوموند” سوى خيار الموافقة أو الرفض بأثر رجعي على القرار، الذي اتخذه المساهمون المسيطرون.
وحتى الآن، اختار هؤلاء المساهمون دائماً شخصية من هيئة التحرير، لكن لا شيء يضمن استمرار ذلك في المستقبل”.
هل يمكن القول، والحالة هاته، إن “لوموند” تحولت من صحيفة مرجعية إلى مجرد أداة لخدمة أجندات سياسية أو اقتصادية؟.
“لا، لا، من الجارح قول ذلك. صحيح أن صحيفة “لوموند” ارتكبت أخطاء، وانقادَت أحيانًا وراء صيحات الموضة، وانغمست أحيانًا في صحافة المشاهير، وربما كانت سطحية أحيانًا لإرضاء الجميع، لكنها ما تزال صحيفة مرجعية في كثير من المجالات. وخصوصًا في معالجة الملفات، التي توكل إلى رؤساء الأقسام الجدد، إذ نجحت في تصحيح الآثار السلبية للإصلاحات، التي قلبت طريقة عمل فرقها التحريرية في تسعينيات القرن الماضي، تحت إدارة جان-ماري كولومباني وإدوِي بلانيل.
هل تعتقدون أن فقدان الاستقلالية ظاهرة خاصة بـ”لوموند” أم أنها اتجاه عام في قطاع الإعلام الفرنسي؟.
“معلوم أنه، في كل مكان تهيمن فيه القوى السياسية أو المالية على وسائل الإعلام، يتم تقييد حرية الصحافة، ويصبح عمل الصحافيين النزهاء معرضا للعراقيل بدرجات متفاوتة. لكن لا توجد حتمية في هذا الأمر.
أي صحافي محترف يحترم نفسه ليس مضطرا لممارسة مهنته ضد إرادته. الصحافي المحترف هو ناقل للحقائق، فهو في خدمة الجمهور، في خدمة المصلحة العامة، وفي خدمة حق الناس في الحصول، بواسطته، على معلومات موثوقة، ودقيقة تم التحقق منها بعناية، وهو ليس في خدمة مصالح خاصة أو حزبية.
وحتى وإن أصبح صحافيو “لوموند” أقلية في الشركة المالكة للصحيفة، فإنهم تمكنوا قدر الإمكان من الحفاظ على حرية التعبير لديهم، وهم يمارسون مهنتهم ضمن ميثاق داخلي يضمن استقلاليتهم، ولا يترددون، عند الحاجة، في نشر ما قد لا يروق للمساهمين الرئيسيين.
لن أقول إنهم أحرار تماما في التعبير عن بعض المواضيع كما كنت أستطيع في زمني، لكن لا يمكن القول أيضا إنهم واقعون تحت وصاية رؤسائهم، لأنهم ينتمون إلى نقابة مقاومة للتواطؤ والمحاباة…
مع ذلك، الوضع مختلف تماما في وسائل الاعلام الأخرى في فرنسا، خصوصا في الصحافة السمعية البصرية، حيث هيمنة القوى المالية أكثر وضوحا ويصعب الفرار منها.
طيب، كيف ترون الوضع الحالي للصحافة الفرنسية مقارنة بالحقبة التي كنتم تعملون فيها داخل “لوموند”؟.
“لقد تغير عهدنا، فقد كنت أمارس مهنتي كناقل للحقائق في زمن ثقافة الكتابة، أما اليوم فنحن في ثقافة الصورة.
لقد تغيرت وسائل التعبير. الصحافة المكتوبة تعاني صعوبات كبيرة، ووجودها مُهدد في كل مكان. لكن التكنولوجيا الحديثة تفتح آفاقا هائلة، اعْطِني جهاز كمبيوتر وسأنتج لك صحيفة بمفردي.
وفي هذه الأيام، التي تُهيّأ لتكاثر المحتالين من كل نوع، ولتكاثر المضللين المحترفين، سيكون المستقبل حليفًا للجريئين الذين يجدون الوسيلة لجعل التعبير عن الحقائق يغلب على التعبير عن الأكاذيب. أنا متفائل…
“لوموند” تُسند اليوم بعض التحقيقات الطويلة إلى مراسلين
أكثر عمومية وأقل اتصالًا بالمصادر المحلية الأكثر موثوقية”
كيف تنْظرون كمسؤول تحرير كبير سابق في “لوموند”، للعلاقات المتوترة أحيانا بين فرنسا والمغرب أو مع دول الجنوب الأخرى حول بعض الملفات؟.

“هذه العلاقات كانت دائما معقّدة، لكن إذا كانت هناك صحيفة قاومت دائما المركزية العرقية السائدة في أوروبا فهي “لوموند”. لقد دفعتها قيمها المؤسسة، دائما، إلى التعامل باحترام مع الموضوعات المتعلقة بحقبة ما بعد الاستعمار، وهذا باسم الدفاع عن القيم العالمية، التي انتشرت في أوروبا، على مدى أربعة قرون.
ومع ذلك، فإن أي صحافي مكلف بتغطية موضوع خارج نطاقه المعتاد، إذا كان ضميره مهنيًا، يجب أن يطلع جيدًا ومسبقًا على ما ينتظره في المكان، الذي ترسله إليه صحيفته. فلا يمكن التحدث أو الكتابة بشكل سليم إلا عن المواضيع التي يُتقنها المرء. ومن هنا تأتي أهمية امتلاك وثائق ومراجع متكاملة، قدر الإمكان، قبل الشروع في العمل الصحفي.
لهذا السبب، كانت صحيفة “لوموند”، ولفترة طويلة، تُوكل معالجة أخبارها القادمة من الخارج إلى مراسليها الدائمين المنتشرين في معظم العواصم الكبرى. فمثلاً، كان مراسلها في الرباط هو الأكثر قدرة على سرد وتحليل وشرح، بل وحتى تحرير مقالات افتتاحية عن الحياة المغربية.
أتذكر، على سبيل المثال، الدقة والحنكة، التي تعامل بها رولاند ديلكور (Roland Delcour)، في ثمانينيات القرن الماضي، في معالجة القضايا المغربية.
اليوم، حين تُسند بعض التحقيقات الطويلة إلى مراسلين خاصين أكثر عمومية، وأقل اتصالًا بالمصادر المحلية الأكثر موثوقية، يبرز خطر أن تصبح التغطيات أحيانًا مقتضبة بشكل مفرط، أو تقريبية، تفتقد الدقة والعمق اللذين اعتادت عليهما صحيفة “لوموند”.
وبالإضافة إلى هذه الاعتبارات، هناك عامل الاختلاف التاريخي والثقافي في فهم حرية الصحافة، والذي يختلف بين المجتمعات الجمهورية والملكية في العالم، وبين الأنظمة الدينية والعلمانية، وبين البلدان ذات التشريعات المختلفة…
ولذلك، يقتضي الأمر من كل صحافي يسعى إلى الحقيقة أن يتحلى بالتمحيص والحذر في ممارسته الصحفية…”.
لو كان بإمكانكم العودة إلى فترة 2001، هل كنتم ستتخذون نفس قرار مغادرة “لوموند”؟.
“غادرت “لوموند” بهدوء في 2001، لأنني لم أرغب في أن تؤدّي خلافاتي مع زملائي الصغار القدامى إلى الإضرار بهذه الصحيفة، التي خدمتها بتفان لمدة ربع قرن.
أشعر اليوم ببعض الأسف لعدم انخراطي في المعمعة. ربما كان ينبغي عليّ التعبير عن شكوكِي ومخاوفي بصوت عالٍ حول المخاطر التي كانت تهدد الصحيفة نتيجة الاستراتيجية التي اختارها جان-ماري كولومباني، الذي كنت قد دعمت انتخابه لرئاسة المؤسسة.
إنه لأمر مؤلم، عندما تدعو إلى انتخاب شخص ما، ثم تعترف بارتكاب خطأً فادح… سأحمل هذا الندم معي طوال حياتي…”.
بالرغم من كل تلك الخلافات، هل مازلتم تعتبرون أنفسكم إبنا لهذه المؤسسة الصحفية؟.
“نعم! لن يتمكن أحد أبدًا من مسح هذا “النصيب” من صحيفة “لوموند“، الذي سيظلّ يعيش في داخلي إلى الأبد”.

“سقطت “لوموند” في تسطيح المحتوى بشكل عميق…. أنا آسف اليوم لعدم تدخلي الفوري”