عبد العزيز بنعبو

صار مشهد رجل في المقهى وهو يطالع جريدته الصباحية أو المسائية، من ذكريات زمن عبر بكل جمالياته ونشوته، وبكل العز الذي راكمته الصحافة الورقية بالمغرب طيلة عقود من العطاء والتميز.

الأزمة الورقية التي تعيشها الصحافة ليست مرتبطة في المغرب فقط، بل سرى الفيروس في جسد الصحافة الورقية على مستوى العالم، ويتذكر القراء آخر عدد من صحيفة “إكسبريس” الأمريكية التي كانت واسعة الانتشار، حيث خصصت صفحتها الأولى من عددها الأخير لعبارة ستظل ترن في أذن العالم “استمتعوا بهواتفكم الحقيرة” هي الدليل على أن الرقمي هزم الورقي لكنه لم يهزم بكل تأكيد الصحافة المكتوبة.

بالنسبة للمغرب، الوضع نفسه، جرائد غادرت إلى دار البقاء وبقيت مجرد ذكرى يتناقلها القراء من الزمن الجميل، وبعض الصحافيين الذين كانوا من بين طاقمها، وجرائد أخرى تقاوم بما تبقى لها من أمل في أن يعود القارئ إلى طاولته في المقهى أو عاداته الصباحية وأن يقتني نسخة ويطالع ما جادت به قريحة الزملاء.

تلك الجرائد الصامدة لحد الآن منها العريقة التي لا يسمح لها تاريخها بأن تتخلى عن الساحة، فهي كانت وما زالت الأساس في المشهد الإعلامي المكتوب في المغرب، ومنها أخرى تقاوم بزاد يأتيها من دعم الدولة التي تحاول أن تحافظ على بقاء المنابر الإعلامية على اختلاف توجهاتها ومشاربها حاضرة في المشهد اليومي السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

الخوض في الأرقام مرهق جداً، فعدد النسخ التي تباع في المغرب لأفضل جريدة لا يوازي عدد النقرات على أصغر موقع إلكتروني يشتغل على “البوز” فقط.

طبعاً، الاتهامات بودلت بين أنصار الورقي ونظرائهم في الإلكتروني، هؤلاء يقولون إن الرقمي قتل المهنة، والآخرون يردّون أنهم لم يطورا أداءهم ولم يخرجوا من قوقعتهم.

بينهما يقول القارئ قوله، ويتفحص هاتفه الذكي بكل بساطة ويمر أمام كشك الجرائد دون أن يشتري جريدة أو كتاباً، يمر عابراً، لأن لديه مكتبة وكشكاً في هاتفه.

اتهامات أخرى تطال الصحافة الإلكترونية في المغرب، كونها تتزين باللون الأصفر، أي أنها من الصحافة الصفراء. والحقيقة أن منابر إلكترونية محترمة جداً، أسسها صحافيون مهنيون ويقدرون المهنة ويشتغلون وفقها دون زيغ أو بحث عن “البوز”، كما أنهم تمكنوا من أن يسايروا الوضع الجديد لكن دائماً تحت ظل شجرة أخلاقيات المهنة الوارفة.

أزمة منذ زمن بعيد

الأسئلة كثيرة وتتناسل على ضفاف هذا الموضوع المؤلم إن صح التعبير، فأن ترى مرحلة كاملة من الصحافة الورقية تسير نحو الاندثار، فتلك من أكبر الجراح التي لا تندمل بسرعة مطلقاً.

الصحافي والكاتب المغربي عزيز كوكاس، أدلى لـ”القدس العربي” بتصريح استهله بالقول إن أزمة الصحافة الورقية تبدت منذ زمن بعيد وزاد من حدتها كورونا الذي جعل الورقي يعرف تراجعاً باعتباره حاملاً للفيروس. وفي مرحلة الحجر الصحي تم توقيف الجرائد التي تحولت من الورقي إلى الحامل الإلكتروني أو عبر تقنية بي دي إف”.

ويشير إلى أن “هناك عوامل كثيرة تسببت في نهاية الصحافة الورقية التي هي الآن تقاوم مثل فارس نبيل يريد أن يموت في الساحة بشرف وبنوع من الشجاعة التراجيدية”.

أول الأسباب، وفق تصريح كوكاس، “الرقمنة، وهيمنة الإنترنت واكتساحها لكل المجالات الحيوية للإنسان والسهولة التي توفر الولوج إليها والاستفادة منها وعموميتها على جميع شرائح المجتمع وعلى الإنسانية بشكل عام، بغض النظر عن مستوى التعلم أو المستوى الاجتماعي من غني أو فقير أو تخلف أو تقدم”. ويعود المتحدث إلى تنقل الإنسانية عبر مراحل أربع من التطور الجذري “الانقلابي” إن شئنا، حيث مرت الإنسانية، من الإنسان الصانع إلى الإنسان العالم، ثم الإنسان الورقي وصولاً إلى الإنسان المتصل.

ويسجل كوكاس ملاحظة مفادها “أن التقنيات غزت كل المجالات في حياتنا اليومية، وصارت أيسر للولوج وفي التوصيل والاتصال ومن ثم سيصبح الورقي مثلما كان مصير المطبوعات التي تحولت إلى نوع من الزينة والديكور والبذخ الذي يحيل إلى تملك أرشيف معين من كتب أو جرائد أو غيرها”.

بالنسبة للعالم العربي، يوضح كوكاس، “لم نمر من الورقي إلا كمرحلة انتقالية لم تكن معممة على كل شرائح الناس، بدليل أنه بسبب الأمية وعادات القراءة لم تكن مترسخة في العالم العربي، فالإنسان العربي لم يكن قارئاً بالمقارنة مع أمم أخرى، بدليل عدد المطبوعات من كتب وجرائد، والذي هو قليل جداً، وما يستهلكك منه هو أيضاً قليل جداً، وذلك بالمقارنة مع ما يطبع وما ينشر، وهذا جعل أيضاً الرأسمال المدعم والرأسمال المستثمر بغض الطرف عن المغامرة في المجال الورقي الذي لم يعد مربحاً وهذا من الأسباب الرئيسية”.

ومن الأسباب الرئيسية أيضاً، يبرز كوكاس في تصريحه “ولوج الإشهار (الإعلانات) وتوقف صنبوره وينبوعه بالنسبة للورقي”، مشيراً إلى أن المستثمرين وأصحاب المقاولات توجهوا نحو وسائط بديلة كالإنترنت والإعلام الإلكتروني بشكل عام”.

وينتقل عزيز كوكاس في حديثه بارتباط مع الأزمة في الصحافة الورقية، إلى أننا “اليوم بالنسبة للصحافة الإلكترونية، نحن لا نميز بحكم أننا أمام معطى جديد في الصحافة، وهناك اختلاط وسرعة في الإنترنت، وسرعة في التمدد، فنحن بين الصحافة الإلكترونية التي هي لها مقومات الصحافة الورقية أو الإعلام السمعي البصري نفسها ، لأنها لا تتغير، فأخلاقيات المهنة والمهنية المفروضة لكي يجعل عملاً صحافياً هي نفسها واحدة، الذي يتغير هو الحامل، من ورقي إلى إلكتروني أو حامل سمعي بصري”.

وهنا يستطرد الإعلامي المغربي قائلاً: “لكن لدينا خلط كبير جداً في مجال الصحافة الإلكترونية على مستوى العالم العربي، أولاً هناك عدم التمييز ما بين وسائل التواصل الاجتماعي “السوشيال ميديا”، وبين الصحافة الإلكترونية”.

وأشار “إلى تأثر الصحافة الإلكترونية بما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا بحكم التمدد والانتشار، فإنه يتم دمج جميع الأشكال، صحافيين وغير صحافيين، دون تلقي أي تكوين، ودون أن تكون لهم أي دراية بمجال الصحافة ويعلمون أن هناك تكلفة غير باهظة وغير مكلفة من حيث الأجور وحقوق الصحافيين… وهنا تتضرر المهنة”.

وتطرق المتحدث إلى جانب مهم وهو المهنية التي أكد أنها هي صاحبة المصداقية، وتغيب عن الصحافة الإلكترونية مع بعض “الاستثناءات الضعيفة”، واستدل بكون “المتلقي ما زال يؤمن بأن ما ينشر في السمعي البصري أو الورقي هو أكثر مصداقية مما ينشر في الإلكتروني، وهذا يحتاج إلى مستوى من النضج في ممارسة الصحافة الإلكترونية، وأن يقتدي ويستفيد مما راكمته الصحافة الورقية من أخلاقيات مهنية واحترافية عالية”.

بخلاصة، يشدد عزيز كوكاس على أنه يجب “الانتقال إلى المجال الرقمي، وهذا ما نشاهده في بعض الصحف اليوم التي هي ورقية وتنشر نسخة إلكترونية أو موقع رقمي، هنا نلاحظ أن المهنة أكثر احتراماً والمجازر في حق اخلاقيات الصحافة هي أقل بكثير مما يوجد عليه خصوصاً كلما ابتعدنا عن المركز نجد الهوامش فيها فوضى والبحث عن البوز عوض السكوب الحقيقي”.

الورقي قد يندثر لكن الصحافة المكتوبة باقية

استقت “القدس العربي” أيضاً رأي عبد الوهاب الرامي الإعلامي والأستاذ في المعهد العالي للإعلام والاتصال، حيث أكد في مستهل حديثه أنه “لا بد عند الكلام عن وضع الصحافة الورقية خصوصاً في المغرب، أو على مستوى العالم، علينا أن نذكر أننا أصبحنا اليوم في عالم تنتفي فيه الحوامل المادية ويتسع فيها مجد التعامل مع اللامادي”.

في هذا السياق، يوضح المتحدث: “يمكن أن نتصور تحول الصحافة الورقية من صحافة تعتمد حاملاً مادياً إلى صحافة أخرى يمكن أن تنخرط في الإطار الافتراضي الذي يحقق لها إمكانيات أكبر للتعامل مع المجتمعات الجديدة سيراً نحو مجتمع المعلومات والمعرفة”.

وذكر في تصريحه بأن “الصحافة الورقية كانت تتمتع بهامش حرية كبير على مستوى التعبير في الفضاء العام، وربما أقول إن الصحافة الورقية كانت تحتكر وبشكل ما التعبير على مستوى العالم، ولم يكن لها منافس، حتى الصحافة الحزبية التي كانت هي الأساس في المغرب، فقد كان لها قراء معينون يعتبرون في وضعهم امتداداً للمناضلين الحزبيين”.

ولهذا، يضيف “كانت الصحافة الحزبية مسندة من طرف مجموعة من القراء يعتبرون أنفسهم امتداداً للأيديولوجية الحزبية التي يؤمنون بها، لذلك حتى القراء كان يمكن توصيفهم بشكل من الأشكال بالنظر إلى الخط التحريري لهذه الجرائد”.

حسب الإعلامي المغربي، فإن “هذا الأمر انتفى الآن، خاصة أننا في إطار التحولات الجارية بفعل التكنولوجيا الجديدة للإعلام والاتصال، أصبحنا أمام مؤثرين جدد وتم دك الاحتكار الذي كان قائماً على مستوى التعبير، لأنه كان لا بد من مقاولة ومن تكلفة ولا بد من هيئة يمكن أن تسند الجرائد التي تعبر من خلال لسانها، وبالتالي حين نتحدث عن اندثار الصحافة الورقية يمكن أن تتحول لتتماشى وأشكال التلقي القائم اليوم على مستوى جمهور وسائل الإعلام عموماً فهو اندثار ورقي لكنه ليس اندثاراً للصحافة المكتوبة”.

يجب أن نعي هذا الأمر جيداً، يوضح الرامي، “فالصحافة المكتوبة ستظل طبعاً قائمة وسارية دون أن نستند إلى مقومها الأصيل ألا وهو المقوم الورقي والتعامل معها مادياً على مستوى القراءة”.

والنسبة للمتحدث، فإننا “اليوم أصبحنا في تصور يقضي حتى على أخلاقيات المهنة”، ويوضح الرامي ذلك مشيراً إلى “إشراك الجمهور في صناعة المحتوى الإعلامي، وهذا طبعاً يتجاوز مقدرات الصحافة الورقية، فيمكن أن نتعامل مع تعليقات القراء بشكل منتظم وكذلك استخراج مجموعة من الأفكار وزوايا المعالجة من خلال هذه المضامين، بحيث يتم تحويلها إلى مادة إعلامية، وهذا كما قلت يؤسس مشاركة الجمهور في صناعة المحتوى الإعلامي”. مسألة أساسية أشار إليها الرامي وهي “السرعة المرتبطة بكل مجالات إنتاج اليوم وهذا التسابق باعتبار الزمن محدداً أساسياً في التقييم العام، فهو يتنافى وعادات القراءة المتأنية التي كانت فيما سبق مرتبطة بالقراءة الورقية كتخصيص وقت للقراءة… في حين اليوم نقرأ في أي زمان وأي مكان عن طريق الهواتف الذكية التي ترافقنا أينما ذهينا وارتحلنا”. هناك مسألة يجب التسطير عليها، يبرز عبد الوهاب الرامي، “وهي مسألة الاستثمار، إما في الصحافة الورقية أو الصحافة الالكترونية، فالاستثمار في الأولى هو مكلف، فلا بد من طاقم ولا بد من طباعة فهيكلتها ثقيلة جداً بالنظر إلى الصحافة الإلكترونية حتى إن الأفراد يمكنهم الاشتغال عن بعد وأن يخرجوا المواد بنفسهم وإدراجها في الصفحة دون المرور بالمطبعة”. كذلك الارتباط بساعة الإقفال، يضيف الرامي، “فالمحدد الأساس على مستوى السؤال المرتبط باستدامة الصحافة الورقية هي ما زالت قائمة لأنها تتلقى دعم الدولة”، رغم أن الإشهار أصبح يقل يوماً بعد يوم، مما دفع بالكثير من هذه الصحف الورقية للتحول إلى نسخ إلكترونية إلى صحافة إلكترونية بالكامل، وبالتالي قد تندثر الحوامل الورقية لكن الصحافة المكتوبة التي هي مرتبطة بالحامل الورقي لن تندثر، لأن الصحافة المكتوبة ما زالت قائمة”.

ويختم الرامي كلامه بالتأكيد على أن “الحامل الورقي قد يندثر وهو في طريقه إلى ذلك، لكن الصحافة المكتوبة كشكل من الأشكال الإعلامية المرتبطة بالورق ستظل قائمة. إذنْ، ليس هناك اندثار بالكامل للصحافة المكتوبة لأنها ستتحول إلى صفحات إلكترونية تعوض الورقي”.

المصدر: القدس العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *