يعيش سكان بلوك ج -13 في ظلّ الحِجر في رمضان للمرة الثانية. مجددا، تُقرّر الحكومة فرض الحظر ليلا. في هذا الحي الخلفي، كما في كامل المدينة والبلد، ستتقيّد الحركة وتُخنق الأنفاس وتُعدّ الخطوات.. تلك أحكام الجّايْحة، وما على الحكومة إلا التنفيذ. كلّ العالم يخضع لفيروس تافه. تعود إلى الأذهان ذكريات التجربة -الكابوس. مرة أخرى، يجد سكان البلوك، أو سْويقة المحاميقْ، أنفسهم “فاصْ أفاصْ” مع الحقيقة، حقيقة أنفسهم وحقيقة الآخر، الأخ والحبيب والزوّج والصديق والجار والعابر، في ظرفية استثنائية، والوبأ مستجدّ ومستبدّ..
عبّاس لعورْ واحدٌ من قاطني ديورْ 13. إسكافيّ (خْرّاز) وبائعُ سجاير بالتقسيط (الدّيطايْ) ووسيط عقاري (سْمسار) ومساعد تاجر ومرشد سياحي غير مرخّص وربما واشٍ ومُقدّم خدمات متنوعة. يقدّم عبّاس خدماته للقاطنات والقاطنين بدون مقابل، غير الله يْرحم الوالدين المأثورة. للعابرين يعرض خدماته ووساطاته مقابل ما يجود به الواحد منهم، حسب طبيعة الخدمة، من نسبة أو بقشيش أو هدايا وأكسسوارات أو حتى وجبات أو ما بقي منها أحيانا.. “سْبع صّنايع”، تستفزّه زوجه هْنيّة الكْعية، متقلّبة المزاج.. يعيش معها عْبيبيس مواقف غريبة ضمن أخرى، في حومة غريبة، خلطت تداعيات الوبأ أوراقها أكثر ممّا هي مخلوطة..
تابعوا معنا، طوال رمضان، هذه “الخالوطة” من الوقائع الغريبة في هذه الحومة الغريبة في أزمنة تحكمها جايْحة غريبة..
(ملحوظة: كلّ تشابُه في الأسماء أو الأحداث أو التواريخ بين ما يرد في هذه السطور والواقع هو من قبيل.. صدفة غريبة)
ع. الرزاق برتمزّار
الحلقة الـ26
إذا كان عبيبيسْ لا يتوفّر إلا على هاتف من الماضي ولا يرى فيديوات وتْصاور “نجوم الطوندونس” إلا في جهازي أو أجهزة غيري من أصدقائه ومعارفه في محيط سويقة المحاميق، فإنّ هْنيّة، هي تمكّنت، ذاتَ زمن جميل، من إقناعه بأن يشتري لها هاتفا ذكيا. “باش نولّي حّتى أنا بنادمة ونعرْف الوقت أش جاري فيها.. وايلي، يا هاد الرّاجْل، خْزي الشّيطانْ.. واش تُعزّ فيَ تلفون بعشرين ألفْ؟”..
وكان يكفي أن تخزي، هي، الشيطان وتُمكّنه من عسلها في تلك الليلة الطويلة، ليكون الهاتف “الذكي” بين يديها منذ الساعات الأولى لنهار اليوم الموالي. كانت الوقتْ زاهْية وْالفلوسْ داخْلة، وهْنية أدركت، بحاسّتها الأنثوية التي تشمّ رائحة الدّرهم وبحكم معاشرتها له، أنّه “فيهْ ما يتريّش”. وحين تشعر هْنيّة بأنّ عبيبيسْ فيه ما يْتريّش لا تتردَد لحظة في ترييشه.
ما علينا، صارت هْنيّة تملك هاتفا ذكيا تتصوّر به على خدّوج الصّوطة وعيشة النقّاشة وسعاد بنت الفرمْلي. طوال شهور وهنّ يتباهَين عليهن بتلفوناتهنّ الكبيرة والمزوّقة اللي تيجيبو الفيديواتْ والتصاورْ. لا تكاد تزورها إحداهنّ أو تلتقيان في السّويقة أو في حديقة الحومة مساء حتى تبادرها “شفتيهْ ولاّ لا، داك الفيديو ديال وْلد الروميكس اللي تزوّز أم خاطيبْتو؟”.. وهْنية، التي لا تعرف شيئا مما يحدُث غير ما يعرض عليها التلفزيون المعلق فوق رأسها في السرير، تكتفي بهزات نفي من رأسها، ثم تتابع المشهد مشدوهةً بهذا التلفزيون البديل، الذي يصوّر مآسي مزاليط الأحياء الخلفية.
والآن، وقد صار السّمارت فونْ ملك يدها، صارت هْنيّة لا تفارقه إلا لماماً. أصابها هوس الصور والفيديوات المتسربلة أمامها، في قائمة لامنتهية من الفضائح والجرائم والرّوتين. ومن قصة إلى قصة وفضيحة إلى فضيحة، ركبت هْنيّة سفينة الإبحار في محيط متلاطم بالصور والأصوات ولازمت حانوت بّا صالْح من أجل التزود بالتعبئات اللازمة لمواصلة الفْراجة في عالم بدا لها أنّ كل خلقه صاروا يتحدثون، يروون فضائحهم ومآسيهم ويعرضون أمام خلق الله كلهم شوهاتهم وعاهاتهم وروتينهم العاري، وحتى جرائمهم، غير آسفين.
وشيئا فشيئا، انساقت في الموجة، هْنيّة، وصارت تتشوق لسماع قصص هؤلاء المنظّرين والوعاظ والمفتين، الفاهمين كل شيء. ولأنها عذراء فكريا، ملأت صور “نجوم الطوندونس” ذاكرتها وباتت، بمرور الأيام، تصدّق كل ما تسمع، كل ما يقول أبطال الأزمنة الحديثة في مجتمعات بالية.
كان أحدَ هؤلاء الذين صارت تطلع أمامها صورهم وفيديواتهم بكثرة هذه الأيام فقيه فاهْم، تّبارك اللهْ، أقنعتْ نفسها بتوالي متابعتها محاضراته ونصائحه. هي لا تدري كيف يطّلع لها هذارالشخص تحديدا ووجوه أخرى أكثر من غيرها، فقط صارت تضغط على أي فيديو يظهر لها فيه صورته، لتسمع كلامه الذي باتت تصدّقه.. وكان، في خضمّ ذلك، أنّ الأمور سارت على ما يرام مع عبيبيسْ، وفق ما قال لي لاحقا، في تجارته الجديدة: الرّايبْ. ثم كان أن رأى، وهو صائم، دلّاحات مشهيات يعرضها وْلد الحفيان في ناصية الشارع، قبالة محلهم، الذي يستغلون مساحة كبيرة أمامه لعرض فواكههم، التي يضيق بها الحانوت الضيّق. تخيّر منها واحدة ودفع فيها 53 درهما، وحملها مسرورا إلى هْنيّة، التي سرعان ما ستصدمه، ليعلو صوتاهما الحومة، مجدَدا، قبيل المغرب بدقائق قليلة.
-ما بانْ ليك غيرً الدلاّح يا هاد راس الدّلاحة؟ ما فراسكشّ باللي فيه المرضْ وقتلْ شي بْنية، الله يحفظ، هاكْ سمع الفقيه أش تيگولْ..
-وا سيري تّنپگي انتَ وداك السي الفْقيه ديالك..
أجابها بعد سماع مقطع قصير، وتابع وهو يصعد الأدراج محتضنا دلاحته:
-وْالله ألالة عْلى هاد الحْساب لا دْقتيها، هيرْ خلّيني نموتْ بّوحدي، هير نحيّد شهوّتي منّها ونموت ديك الساعْ.. إيوا هاكْ عْلى ذاگيه ليه ليبرا ديال لحلاوة.. ليبرا لاگيناها حْنا نضربوها عْلى ودّ هاد الفيروس ما بْقى هير ندگوها للدلاّح!.. وانوضي، قْضي غرَض لزاسك، بقايْ مقابلة ليّ هاد المصرهطينْ ديال اللّحاية، وْالله ما نصدَقهوم، واخا نبقى هير أنا ويّاهومْ..
-وا غير٫ بصحتك،وعنداك غيرْ تّاكلها وتلوى ليّ هْنا، راه ما عندي باس نهزّك لشي صبيطارْ، تلتْ يّامْ هادي ما عاطيني حْتّى درهم.. آه، ولاّ گلْ ليَ الناس وْلاّت تبيع وتشري، وفي أول نهار جايبْ لي دلاّحة قدّ السّخطْ.. علمْ الله شحالْ خلّصتي فيها، ما تكون غير حطّيتِ فيها سي ربعميّة دْريالْ أو خمسميّة..
-ربعميّة أو خمسميّة؟.. وانوضي ضربي الفگدْ فراسك، تلاتة وْخمسين درهمْ هادي فاش تتشوفي..
-أوَيلي عْلى خمسينْ درهم فدلاحة مْدوّدة! واش عندك شي عقلْ أو ما تكسابوش؟!
وا انتِ اللي ما تكسبي عْقل اللي عاطياه لبوزبّال، فينمّا گالْ شي واحد شي حاجة تصدّقيه.. سيري، بعّدي عليّ، سيري.. وا هاكْ عْلى مدوّدة.. هي عمّري ما شريتْ الدلاّح وعارْف أش شاري..
وطوال ثلاثة أيام الموالية ظل عْبيبيس، كما حكى لي مقهقهاً كم لم يفعل منذ زمن بعيد، يأكل من فصوص الدلاحة الشّهية ما شاء واشتهى، بعد الفطور والعشاء والسّحور، وهو يضحك في أعماقه من هْنيّة ومن نظراتها المذعورة وهي تترقّب، في كل لحظة، أن يستبدّ به الوجع ويمرض ويموت، كما قال فقيهها الملتحي، “الذي يفهم في كل شيء ولا يفهم شيئا بالمرّة”…
