في غفلةٍ من الجميع، تسلّلت يدُ المَنون لتأخذ من بيننا الحاج محمد حمدي إلى جوار ربّه، وهو على هدى من الله، بعدما عرفناه رجلَ خيرٍ وسبّاقاً إليه، في القنيطرة حيث كان المقام، وفي الرشيدية بلدِ الآباء والأجداد.
تعرّفت على الحاج محمد حمدي قبل أربعٍ وعشرين سنة، حين كنت أشتغل في الصحافة الرياضية لفائدة جريدة المنتخب.
كان وقتها الحاج حمدي عضواً بارزاً في الاتحاد المغربي لرياضة الفوفينام فوت فداو.
والحقيقة أن حمدي، إلى جانب جوحيد وتحت قيادة الأستاذ حسن عبيلات، يُعدّ من مؤسسي القاعدة الأساسية التي شُيّد عليها في المغرب بنيان هذه الرياضة القتالية ذات الأصل الفيتنامي.
لقد جعل هذا الثلاثي: «عبيلات، حمدي، جوحيد» من مدينة القنيطرة عاصمةً للمغرب وإفريقيا في رياضة الفوفينام فوت فداو.
مضايقاتٌ وصعوباتٌ كثيرة تغلّب عليها هذا الثلاثي في سبيل نشر اللعبة بين الشباب واليافعين والصغار، حتى أثمرت الجهود بإلحاق اللعبة بجامعة الجيدو، وانتشار جمعياتها في الأحياء…
كان الراحل الحاج حمدي يوازن بين نجاحه المهني كإطارٍ في إحدى كبرى الشركات، وبين نجاحه الرياضي كممارسٍ ومؤطرٍ ومسير.
يدين الحاج حمدي في استقراره بمدينة الجواهر الخالدة، القنيطرة الغالية، إلى شخصية بارزة في التاريخ الاقتصادي لعاصمة الغرب.
والأمر يتعلق بالحاج فهيم، الرجل العصامي الذي انطلق من مدينة القنيطرة عبر شركة AIC، حتى أصبح من كبار رجال الأعمال في المغرب من خلال امتلاكه لمجموعة ديلتا هولدينغ.
قلتُ إن الفضل يعود — بعد الله — في عيش الحاج حمدي بيننا في القنيطرة إلى الحاج فهيم، الذي تربطه بالراحل علاقة قرابة عائلية، فهما معاً ينحدران من جهة تافيلالت وعاصمتها الرشيدية.
على مدى سنوات معرفتي بالحاج حمدي، عرفت فيه رجلاً للقيم والمبادئ، نقيّ القلب، صافِيَ السريرة، حسنَ المعشر، كريمَ الضيافة، بارّاً بالله والوالدين.
أذكر أنه في كل مناسبة دينية، خاصة عيد الأضحى، كان يشدّ الرحال لقضاء العيد مع الوالدين والإخوة والأحبة هناك في تافيلالت.
ولأنه رجل مرحٌ طيب النفس، كنتُ كلما عاد من «البلاد» قلت له مازحاً: «مشتي وكليتي المدفونة بلا ما تعرض علينا».
فيجيب الجواد ابن الجود بابتسامته المعهودة: «الله يعطيك ما تاكل، نهار السبت راك معروض عندي تَاكُل المدفونة».
والمدفونة — لمن لا يعرفها — هي أكلة من منطقة تافيلالت، لذيذةٌ تشبه البسطيلة شكلاً ولا تشبهها لا من حيث المكونات ولا من حيث المذاق.
مرت سنوات وسنوات، وتعاقبت أجيال وأجيال، وتواريخ وأحداث، وتغيّرت أشياء كثيرة… وظل الحاج حمدي، الشهير بترديد كلمة «عمو»، هو هو…
لم يتغير، حمدي، بل إنه كرّس سنوات عمره الأخيرة في مضاعفة فعل الخيرات، ومبادلة الناس الحب بألف حب.
اسألوا أطفال «الدار الكبيرة»، فشهادة النزلاء الأبرياء في حق «عمو حمدي» تكفي وتزيد.
هذا هو «عمو حمدي»… هكذا عرفناه، وهكذا تذكرناه في يوم الجمعة هذا، بعدما غادرنا دون استئذان وترك في قلوبنا حرقةً ولوعةً ملهبتان.
نم قرير العين هانئها «عمو حمدي».
فأنتم السابقون ونحن اللاحقون، وكل مَن عليها فانٍ، ولا يبقى إلا وجهُ ربك ذو الجلال والإكرام.
إنا لله وإنا إليه راجعون، وإلى جنات الخلد إن شاء الله جل وعلا.
*محمد سليكي
