أعدها للنشر: المصطفى الحروشي
“رجاء لا تطلب مني أن أصمت”.. “اسمح لي بأن أتنفس”… بمثل هذه العبارات يخاطب “اللاجئ” مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، القائد السابق لما يسمى بجهاز الشرطة لدى ملشيات جبهة “البوريساريو” من يطالبونه الكف عن خط حكايات بخط اليد حول أهوال الجحيم، هناك في مخيمات الحديد والنار والقمع والحصار في تندوف فوق التراب الجزائري.
جريدة “le12.ma” تنشر طوال الشهر الفضيل حلقات سيرة ذاتية بطلها إنسان بعنوان “الخروج من فم الثعبان” يروي أسرار تفاصيلها مع عاش تفاصيلها.
*لا تطلبوا مني أن أصمت
كانت خيمة خالي الذي نزلت عنده في مكان منعزل، لذلك قررت أخذ والدتي إلى أخواتها قرب “تامريكط”، في منتصف الطريق بيننا وبين أمهيريز، وجهتي المقبلة.
كنت واثقا من الاعتقال، ولا فكرة لي عما سيعقبه. لكني لم أشغل نفسي بتلك الهواجس. أردت أن يبقى ذهني صافيا.
وصلنا إلى خيام الخالات وتناولنا وجبة الغداء، ثم كان الوداع.. وداع والدتي، فأنا ذاهب إلى مجهول ينتظرني على بعد كيلومترات. وما سمعت وحده يكفي لكي أتردد. وفجأة، اتصلت شقيقتي من المخيمات تبكي وتنتحب وترجوني ألا أذهب، فقد أخبروا المسكينة بأنهم سيقتلونني. ولا أدري كيف خرجت من ذلك الموقف.. والله لا أدري.
كانت فكرة واحدة تسيطر علي: لو عدت اليوم فسأحكم على نفسي بالإعدام والإدانة، وأؤكد رواية الجبهة وأعطيهم الحجة في المستقبل لأن يطردوا من شاؤوا ويُبقوا من أرادوا.. وإن كان الطرد حتميا فليفعلوا، هم وليس أنا. أما أن أعود من بلدتي ومسقط رأسي لأن هناك من لا يعجبه ذلك، فلا.
استجمعت كل قوتي ولبست أحسن ملابسي وتصنعت المرح، كمن هو ذاهب في رحلة، حتى أخفف عن والدتي صعوبة الموقف. ولم أودّعها.. قلت للجميع إلى اللقاء وركبت السيارة، أنا وأخي الصغير وأبناء خالتي. وفي سيارة أخرى رافقتنا كان الخال بوزيد، العارف بالمنطقة.
لمّا وصلنا المكان المسمى “كرفة اصنادرة” توقّفنا بعد دخولنا حدود الجبهة بأمتار. ترجّلنا من السيارة، وطلبت من خالي أن يذهب إلى قيادة الناحية العسكرية الرابعة ويخبرهم بأني دخلت الحدود وإن كان لديهم أوامر باعتقالي فليتفضّلوا، لأني أريد أن يتم الأمر خارج البلدة بعيدا عن النساء و الأطفال.
بعد قرابة الساعة، عاد الخال ليخبرنا بأن القيادة العسكرية طلبوا منا الانتظار حيث نحن وبأنهم سيأتوننا بالرد.. وبعد ذلك بدقائق اقتربت سيارة عسكرية تحمل رشّاشا وتوقفت غير بعيد منا.. انتظرنا قرابة الساعتين حتى حلّ الظلام وصلينا المغرب.
أخبرني الخال بأن “الجماعة”، كما سمّاهم، قد أتوا، رغم أني لم ألحظ ولم أسمع شيئا. وطلب مني مرافقته على أرجلنا. وفعلت غير بعيد منا، وجدنا شخصين واقفين في الظلام، بزيهما العسكري و دون سلاح. بادرناهما، نحن القادمين، بالسلام وردّا علينا السلام وتصافحنا عرفتهما من الوهلة الأولى، فقد كانا مدير أمن الناحية العسكرية، ابن عمي: محمد سالم ولد الحسين، وقائد كتيبة، اسمه عمار ولد امحمد.
قالا إنهما مجرد رسولين وليسا صاحبَي قرار وإن القيادة في الرابوني أمروهم بأن يُخيّروني بين الرجوع أو الاعتقال. قلت لهما، وكلامي موجّه إلى ابن عمي، إنه يمكن أن أعود عن أي مكان إلا امهيريز! فأنت تعرف أن كل بئر فيه نحن من حفرناها، وكل شبر هو موضع منزل لنا أو مرعى لماشيتنا. وإذا كانت لديكما أوامر بالاعتقال فأنا جاهز. ما عليكما سوى أن تحضرا سيارتكما. قالا إنهما ينتظرانني في الطريق. وانتهى اللقاء.
عدت إلى الشباب الذين يرافقونني وأخبرتهم بأننا سننطلق صوب أمهيريز، وودعت خالي ليعود إلى الوالدة.. وأوصيت أخي بالأولاد. واتكلنا على الله.. في تلك اللحظات اتصل بي الصحافي محمد سعيد الوافي، مراسل “فرانس 24” في واشنطن، وكان دائم الاتصال بي في الأيام السابقة. أخبرته بأني لم أعد أستطيع الكلام وبأني سأُعتقل بعد لحظات. وانقطع اتصالي مع العالم الخارجي من تلك اللحظة من مساء 21 شتنبر 2010.
بعد أقل من كيلومتر من نقطة انطلاقتنا، تحولت الأرض إلى أضواء من كل الجهات.. كان الظلام، ولم نميز عددها وهي تداهمنا بسرعة من كل الجهات. فتوقفنا. نزل بعض الجنود وطلبوا مني الترجل من السيارة، ففعلت.. أراد الشبان الذين كانوا يرافقونني النزول أيضا فمنعوهم وطلبوا منهم العودة من حيث أتوا، بعد إنزال أمتعتي من السيارة. فالبلدة تلك الليلة مغلقة ولا يُسمح بدخولها.
أمرني احد الجنود الذين اقتربوا مني بأن أصعد إلى إحدى السيارات، وفعلت.. لتبدأ رحلة اختفائي عن العالم، التي دامت 71 يوما.
وللحكاية بقية…
