استطاعت المملكة المغربية، في أكثر من ربع قرن من حكم الملك محمد السادس، أن تحول موقعها من بلد طرفي إلى قوة إقليمية صاعدة، تبني علاقاتها الدولية على الثقة في الذات، وعلى الجرأة في اتخاذ المبادرات، وعلى الذكاء في قراءة التحولات العالمية.
محمد ابن إدريس
بين تخليد مناسبة عيد العرش المجيد، الذي صادف هذا العام الذكرى السادسة والعشرين لتربع جلالة الملك محمد السادس على عرش أسلافه الميامين، والاحتفال بالذكرى الثانية والسبعين للملحمة الوطنية الخالدة “ثورة الملك والشعب” في 20 غشت من كل سنة، والاحتفال بعيد الشباب، الذي يتزامن هذه السنة مع الذكرى الـ 62 لميلاد جلالته (21 غشت)، يطل المشهد المغربي محمّلًا برمزية خاصة، حيث تتقاطع هذه المناسبات الثلاث المجيدة في قراءة حصيلة ستة وعشرين عامًا من حكم عاهلنا المفدى.
هذه الحصيلة ليست مجرد تراكم للسنين أو المشاريع، بل هي مسار استراتيجي متواصل مكّن من إعادة تشكيل موقع المغرب إقليميًا وقاريًا ودوليًا، وأعاد صياغة علاقة الدولة بمواطنيها.
منذ اعتلائه العرش، وضع جلالة الملك محمد السادس هدفًا مركزيًا: بناء قوة المغرب بكل هدوء وثبات في كل أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية، مع الحفاظ على وحدة المجتمع المغربي، وتعزيز مكانة المملكة على المستوى الدولي، وجعلها نموذجًا للاستقرار والتنمية في المنطقة.
حسم ملف الصحراء المغربية: انتصار دبلوماسي استراتيجي
قضية الصحراء المغربية كانت، ولا تزال، المحور الأساسي للسياسة الخارجية للمملكة، وهي تمثل قضية السيادة والهوية الوطنية. على مدى ستة وعشرين عامًا، قاد جلالة الملك محمد السادس دبلوماسية متبصّرة ومتوازنة، تجمع بين الحزم والإقناع، مكّنت المغرب من قلب المعادلة الدولية للنزاع المفتعل بشكل كامل على دعاة الانفصال الذين تتزعمهم الجزائر منذ عقود بلا طائل.
فقد اعترفت الولايات المتحدة الأمريكية، وإسبانيا، وفرنسا، وعدد كبير من الدول من مختلف القارات، بسيادة المغرب على كامل أقاليمه الجنوبية، وذلك بفضل استراتيجية دبلوماسية طويلة الأمد قائمة على المصداقية والحجج القانونية والسياسية، التي تؤكد أن ملف الصحراء المغربية هو قضية وجود، لا مسألة حدود.
كما أثبتت مبادرة الحكم الذاتي، التي اقترحتها الرباط عام 2007، فعاليتها، وحظيت باعتراف دولي وازن وواسع باعتبارها الحل الواقعي والوحيد لهذا النزاع المصطنع، الذي يعود إلى حقبة الحرب الباردة البائدة.
وهنا نشير إلى الدعم الصريح للمملكة المتحدة والبرتغال وعدد مهم من دول الاتحاد الأوروبي، وأوروبا الوسطى والشرقية، وأمريكا الجنوبية والوسطى، ناهيك عن الدعم المطلق الذي تؤكده الدول العربية والإفريقية والإسلامية في كل المحافل الدولية الرفيعة.
وقد نجح المغرب، بقيادة جلالة الملك، في تحويل قضية الصحراء من ملف مؤجّل إلى قضية محسومة، مدعومة بتأييد دولي صريح، فيما تستمر ملحمة “ثورة الملك والشعب” بروح جديدة تحمي وحدة التراب الوطني من طنجة إلى آخر حبة رمل في الكويرة العزيزة.
المغرب والاتحاد الأوروبي: شراكة ندية مبنية على الاحترام المتبادل
حرص المغرب، بقيادة جلالة الملك، على بناء علاقة متوازنة مع الاتحاد الأوروبي تقوم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، مع التأكيد الدائم على سيادة المملكة على كامل صحرائها.
تشمل هذه الشراكة التعاون الاقتصادي والتجاري والاستراتيجي، مع مراعاة أن أي اتفاقيات أو مشاريع مشتركة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار أولًا وأخيرًا الحقائق السيادية للمغرب، وفي مقدمتها مغربية الصحراء.
وهذه الحقيقة الواضحة أصبحت في صلب أولويات صناع القرار في الاتحاد الأوروبي في تعاطيهم الاستراتيجي مع المملكة، حيث بات واضحًا للجميع في المنظومة الأوروبية أن قضية الصحراء المغربية هي خط أحمر، لا يسمح المغاربة بتجاوزه على الإطلاق تحت أي ظرف.
لقد أصبحت العلاقة المغربية-الأوروبية نموذجًا للشراكة المتينة، التي تحقق المنافع المتبادلة دون المساس بالحقوق المغربية، وهو إنجاز دبلوماسي كبير يعكس رؤية جلالة الملك الرصينة في التعامل مع شركاء عالميين وفق المصالح العليا للمملكة.
الالتزام الثابت بالقضية الفلسطينية والقدس الشريف
يظل جلالة الملك محمد السادس، بصفته رئيس لجنة القدس، صوتًا عربيًا رصينًا، ومدافعًا صلبًا عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها إقامة دولته المستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
لم يقتصر هذا الالتزام على المواقف السياسية، بل تجسّد في مشاريع عملية عبر “وكالة بيت مال القدس الشريف”، الذراع الميداني للجنة القدس، التي يمولها المغرب لوحده في غياب أي التزام من أي طرف عربي بتقديم الدعم، والتي أنجزت أكثر من 200 مشروع تعليمي وصحي وتنموي في القدس الشريف، بما يعزز صمود المقدسيين في مواجهة مشاريع التهويد، ويؤكد التزام المملكة بالقيم الإنسانية والتضامنية مع الإخوة الفلسطينيين.
إن دفاع جلالة الملك عن الحقوق العادلة للشعب الفلسطيني تجسده الأفعال الملموسة، وما الجسور الجوية المتواصلة منذ سنوات وحتى يومنا هذا، المحمّلة بمئات الأطنان من المساعدات الإنسانية المغربية إلى سكان غزة، الذين يعانون من عدوان وتجويع ممنهج وغير مسبوق تفرضه قوات الاحتلال الإسرائيلي، إلا خير دليل على أن المغرب، ملكًا وشعبًا، يولي القضية الفلسطينية عناية فائقة، بعيدًا عن عنتريات ومناكفات القمم العربية التي لا تقدّم ولا تؤخر.
إفريقيا والمبادرة الأطلسية: رؤية استراتيجية للتكامل والتنمية
منذ اعتلائه العرش، ثم بعد عودة المملكة إلى منظمة الاتحاد الإفريقي في يناير من سنة 2017، أعاد جلالة الملك صياغة العلاقة المغربية-الإفريقية من مجرد تعاون تقليدي إلى شراكة استراتيجية قائمة على المصير المشترك والتنمية المستدامة.
لقد زار جلالته أغلب دول القارة، وأشرف على توقيع مئات الاتفاقيات الثنائية، وإطلاق عدد هائل من المشاريع النوعية في مجالات الطاقة والزراعة والبنية التحتية والصحة والسكن والتكوين في عدة دول، وفق مبادئ التضامن وتقاسم الخبرات والمنفعة المتبادلة، واحترام الوحدة الترابية للدول، بما يعزز بناء إفريقيا ناهضة وواثقة بنفسها، ومشيدة لتنمية شاملة بسواعد أبنائها وبناتها.
في هذا السياق، برزت المبادرة الأطلسية التي أطلقها جلالة الملك كأحد أعمدة هذه السياسة، من خلال مشاريع تمكّن دول الساحل الإفريقي، غير المتوفرة على واجهة بحرية، من الولوج إلى المحيط الأطلسي والانخراط في التجارة الإقليمية والعالمية، ولا سيما مع دول أمريكا الجنوبية.
كما يشكل مشروع أنبوب الغاز المغرب-نيجيريا، الذي صاغ جلالة الملك أبعاده الجيوستراتيجية برؤية مستقبلية، منصة اقتصادية استراتيجية تربط كل دول غرب إفريقيا بأسواق الطاقة العالمية.
ويُعد مشروع ميناء الداخلة الأطلسي الضخم، الذي دخل آخر مراحل تشييده، مشروعًا لوجستيًا عملاقًا يربط إفريقيا بالمحيط الأطلسي نحو أمريكا الجنوبية والوسطى، ويعزز التجارة والتكامل الإقليمي استنادًا إلى المبادرة الأطلسية التي أشادت بها جميع الدول المعنية.
هذه المشاريع تؤكد قدرة المغرب على لعب دور محوري في التنمية الاقتصادية للقارة، وخلق فرص مستدامة لشركائه الإقليميين، وفق رؤية ملكية شاملة.
الملك المواطن: حين يلتقي رمز الدولة بالإنسان
رغم الزخم الدولي والاستراتيجي، ظل جلالة الملك قريبًا من المواطنين، حيث تجاوزت قيادته المعنى البروتوكولي إلى حضور ميداني فعلي.
يشعر المواطن المغربي بأن ملكه يعرف احتياجاته ويستجيب لها وفق الأولويات، ويرى الشباب في جلالته شخصية قريبة، قادرة على التفاعل معهم حتى في أبسط اللحظات، مثل تبادل حديث قصير أو التقاط صور “سيلفي” مع جلالته في مختلف مدن المملكة، أو مع مغاربة العالم أثناء زياراته لدول أوروبية أو إفريقية أو عربية.
وقد جسدت خطاباته الأخيرة فلسفة حكمه، كما في خطاب عيد العرش الأخير، حيث قال:
“شعبي العزيز، تعرف جيدًا أنني لن أكون راضيا، مهما بلغ مستوى التنمية الاقتصادية والبنيات التحتية، إذا لم تساهم بشكل ملموس في تحسين ظروف عيش المواطنين، من كل الفئات الاجتماعية وفي جميع المناطق والجهات.
لذا، ما فتئنا نولي أهمية خاصة للنهوض بالتنمية البشرية، وتعميم الحماية الاجتماعية، وتقديم الدعم المباشر للأسر التي تستحقه”.
هنا تتجلى قاعدة المشروع الملكي: التنمية وسيلة لخدمة المواطن ورفع جودة حياته على امتداد جغرافية المملكة.
الملك محمد السادس: عيد الشباب ومسيرة البناء
يشكل مسار جلالة الملك محمد السادس، خلال ستة وعشرين عامًا من الحكم، تجربة استثنائية في تاريخ المغرب الحديث، امتزج فيها الحس الإنساني بالالتزام الوطني، والحكامة الرشيدة بالتوجيه الاستراتيجي.
فمنذ اعتلائه العرش، حرص جلالته على جعل المواطن محور كل السياسات العمومية، مؤكدًا أن التنمية الحقيقية لا تتحقق إلا بتحسين ظروف عيش المواطنين وضمان كرامتهم.
وتتجسد هذه الرؤية في الإصلاحات الهيكلية الكبرى التي طالت مختلف القطاعات، من البنيات التحتية العصرية إلى توسيع شبكات النقل، ومن تحديث المنظومة الصحية والتعليمية إلى إطلاق أوراش الحماية الاجتماعية.
كما أولى جلالته عناية خاصة لتعزيز العدالة الاجتماعية وتقليص الفوارق المجالية، بما يضمن توزيعًا متوازنًا للثروات والفرص بين جميع جهات المملكة.
ويكتسي عيد الشباب، الذي يخلده المغاربة في 21 غشت من كل سنة، رمزية خاصة باعتباره مناسبة للاحتفاء بالقوة الحية للأمة وبطاقاتها الواعدة.
ويحرص جلالة الملك على أن يكون هذا العيد محطة لإبراز الدور المركزي للشباب في بناء مغرب الغد، من خلال تشجيعهم على الابتكار وريادة الأعمال والانخراط في الحياة العامة.
كما يولي جلالته عناية خاصة بشباب مغاربة العالم، إدراكًا منه لدورهم المحوري كجسر للتواصل الحضاري ونقل الخبرات والمعارف، وكرافعة لتنمية الاقتصاد الوطني.
وتأتي المبادرات الملكية في هذا المجال لتعكس إرادة قوية في تعبئة طاقات هذه الفئة داخل الوطن وخارجه، عبر برامج الدعم والتكوين، وتهيئة بيئة قانونية ومؤسساتية ملائمة لاستثمار كفاءاتهم.
ويظل جلالة الملك محمد السادس، في احتفالات عيد الشباب، يوجّه رسائل قوية تدعو إلى جعل روح المبادرة والعمل الجماعي والابتكار أدوات لبناء المستقبل، مؤكدًا أن الرأسمال البشري، وفي مقدمته الشباب، هو الثروة الحقيقية للمغرب.
وهذه الرؤية تنسجم مع الأوراش الوطنية الكبرى، بما فيها التحضير للاستحقاقات العالمية التي تنتظر المملكة، وفي مقدمتها تنظيم كأس العالم 2030، التي تمثل فرصة تاريخية لإبراز صورة المغرب كدولة حديثة، متجددة، ومتمسكة بجذورها.
هكذا، يظل عيد الشباب ليس فقط مناسبة احتفالية، بل محطة سنوية للتأكيد على التزام المؤسسة الملكية برعاية الشباب، وتثمين أدوارهم، وإشراكهم في صياغة الحاضر وصناعة المستقبل، بما يعزز المسار التنموي الذي يقوده جلالة الملك بثبات ورؤية بعيدة المدى.
نموذج فريد في الحكم الرشيد
بعد ستة وعشرين عامًا من القيادة الرشيدة، رسّخ جلالة الملك محمد السادس نموذجًا فريدًا في الحكم، قادرًا على الموازنة بين الطموح الاستراتيجي على المستوى الدولي، والالتصاق اليومي بقضايا المواطنين في الداخل.
إن قيادته الحكيمة تُقاس ليس فقط بما حققه من انتصارات سياسية ودبلوماسية وإنجازات اقتصادية، بل بقدرته على الحفاظ على خيط إنساني دافئ يصل القصر الملكي بكل بيت مغربي، مع تعزيز مكانة المملكة على المستوى الدولي وضمان مصالحها الوطنية والسيادية.
اللهم احفظ جلالة الملك محمد السادس بحفظك ورعايتك، وامنحه دوام الصحة والعافية، وبارك في عمره وأعماله، وأدم عزّه ونصره، واجعل حكمه مصدر خير ورخاء للمغرب والمغاربة.
