تواجه فرنسا مرحلة من التحديات الاستثنائية، تشبه سفينة ممزقة الأشرعة في عاصفة هوجاء. الرياح السياسية والاقتصادية تعصف من كل جانب، والأحزاب والفرق السياسية المتنازعة على السلطة تتصارع حول بوصلة مفقودة، بينما يغلب الصراخ على الحوار في البرلمان، الذي فقد مصداقيته كمنبر للجدل العقلاني.
الميزانية، التي كانت أداة للتخطيط والتنمية، تحولت إلى ساحة للصراع السياسي والمساومات اللحظية، ما يعكس هشاشة المؤسسات وقدرة الأطراف على تحويل الضرورة إلى نفوذ سياسي. سقوط حكومة فرانسوا بايرو ليس حدثًا عابرًا، بل مؤشرًا على ضعف السلطة التنفيذية وعجزها عن الصمود إلا عبر توازنات هشة ومساومات مستمرة.
تحليل إخباري ـ محمد ابن إدريس
العجز المالي في عام 2024 بلغ 5.8% من الناتج المحلي الإجمالي، فيما تجاوز الدين العام 113.9%، ما يضع الدولة تحت ضغط اقتصادي هائل. ومن المتوقع أن يتراجع العجز إلى 5.4% في 2025، قبل أن يستقر عند 5.2% في 2026 إذا تم الالتزام بخطط تقليص الإنفاق وزيادة الإيرادات. الشعب الفرنسي لم يعد ينتظر الرؤى الكبرى أو الوعود السياسية، بل يطالب بالاستقرار والنظام، ولو مؤقتًا، كإجراء وقائي ضد الانزلاق في الفوضى.
الميزانية وأزمة الحكم: الأرقام والتحديات
تعيين سيباستيان ليكورنو رئيسًا للوزراء يعكس تحولًا نحو البراغماتية العملية على حساب الرؤية الطموحة. السياسة اليوم لم تعد مسرح أحلام، بل فن إدارة الضرورات، حيث تُفضل الكفاءة التنفيذية على الشعارات الرنانة، ويصبح البقاء على رأس السلطة أولوية قصوى. ومع ذلك، فإن هذه البراغماتية، رغم قدرتها على الصمود، تحمل مخاطر طويلة المدى، أبرزها استنزاف الرؤية الاستراتيجية والاعتماد على حلول مؤقتة بدل المبادرات الكبرى.
في ظل الأزمة المالية المتفاقمة، أصبحت الميزانية أداة حاسمة: بين أصوات مشتركة على اليمين وتنازلات على اليسار، وبين أرقام تُعرض كحلول وسط مقبولة. الحكومة تهدف إلى خفض العجز إلى 5.4% من الناتج المحلي الإجمالي في 2025، مع خطط لتقليص الإنفاق العام بمقدار 44 مليار يورو، تشمل إلغاء عطلتين رسميتين وتجميد معظم النفقات، وزيادة الضرائب على الشركات الكبرى والأفراد ذوي الدخل المرتفع بما يصل إلى 18 مليار يورو.
الدين العام الثقيل يقيد الدولة ويحد من قدرتها على المناورة، ويجعل طريق الاستقرار مليئًا بالمنعطفات الصعبة، حيث تُمرر القرارات بصعوبة، وتُؤجل الإصلاحات الحيوية، مما يخلق حالة من الجمود المؤسساتي والمناورة السياسية المستمرة. الميزانية القادمة ستكون ناقصة ومليئة بالوعود المؤجلة، لكنها ستُقر حفاظًا على الحد الأدنى من الاستقرار، وليس نتيجة توافق استراتيجي.
الاحتجاجات الأخيرة، التي شارك فيها أكثر من 80,000 شخص وتم اعتقال نحو 300 منهم، تعكس حجم التوتر المجتمعي، مع توقع استمرار مظاهرات محدودة في 2025 قد تصل إلى 100,000 محتج، مع التركيز على المدن الكبرى مثل باريس وليون.
دور القيادة واستراتيجية ماكرون في إدارة الأزمة
من الناحية المؤسساتية، التحدي الأكبر يكمن في التوازن بين الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. تعيين ليكورنو، رابع رئيس وزراء خلال أكثر من عام، يبرز هشاشة الاستقرار التقليدي للجمهورية الخامسة، ويضع الحكومة أمام اختبار مزدوج: إدارة الأزمة المالية العاجلة، والحفاظ على استقرار النظام السياسي أمام تحركات المعارضة من اليمين المتطرف إلى اليسار الراديكالي، مرورًا بالوسط المعتدل الذي يحذر من انهيار المؤسسات.
الرئيس إيمانويل ماكرون اعتمد استراتيجية مزدوجة: أولاً، المساومة مع القوى السياسية لضمان تمرير الميزانية، بما في ذلك الموافقة على زيادات محددة في الضرائب وخفض بعض النفقات، وثانيًا، التواصل المباشر مع الشعب الفرنسي لتبرير الإجراءات وتخفيف الاحتجاجات، مستخدمًا الخطاب الرسمي ووسائل الإعلام الرقمية لإظهار خطوات ملموسة لتقليص العجز العام، وإدارة الدين العام الذي من المتوقع أن يصل إلى 114.5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية 2026 إذا لم تُتخذ إجراءات أكثر صرامة.
الأزمة الفرنسية تكشف عن تحديات أعمق: غياب الرؤية الاستراتيجية، واعتماد القرارات على التدبير اللحظي بدل التخطيط طويل المدى، والانشغال بإدارة الفوضى بدل الاستثمار في الإصلاحات الكبرى. فرنسا تحتاج إلى قيادة تجمع بين الجرأة والحكمة، بين الضرورة والرؤية، لتجنب تحويل أزمة الميزانية إلى أزمة وجودية للسلطة نفسها.
باختصار، فرنسا اليوم تمضي بحذر، ليس بالعظمة، بل بالضرورة؛ تتقدم ببطء، ملتفة حول نفسها، معلقة بين الفتور الاجتماعي والسياسي وبين الحاجة الملحة للبقاء. وهذا الواقع يفرض على القيادة أن تتقن المراوغة الاستراتيجية والإدارة الحكيمة، وأن تجعل من الضرورات اليومية خطوة نحو رؤية وطنية متماسكة، قبل أن تتحول الأزمة المؤقتة إلى مأزق دائم يصعب الخروج منه.
