من الفزع والصدمة لحظة مشاهدة الوحش إلى التفكير في الكينونة والبحث عن المعنى، يكون المخرج المكسيكي غييرمو ديل تورو قد نسج حكاية بصرية أخاذة وعميقة تتجدد بنكهات مختلفة مع تعاقب أعماله التي جعلته صاحب منهج ورؤية في تاريخ السينما.

إذ يضم المهرجان الدولي للفيلم بمراكش المخرج الشهير الى القائمة الذهبية للشخصيات السينمائية التي يحتفي بها عبر دوراته، فإنه يكرم مبدعا متفردا، تأليفا وإخراجا، شق طريقه الخاص في أنسنة الوحوش والأشباح وحشر المشاهد في زاوية مساءلة ذاته وإسقاط الأقنعة عن إنسانيته التي يكتشف أنها لا تتحقق بالشكل الجسدي بل بقيم وسلوكيات.

ككل مبدع حقيقي، تبدو أعمال ديل تورو امتدادا واعيا ومفكرا فيه لطفولة أمضاها في مصاحبة الشخوص الغريبة والأنس بالكائنات الخرافية واللعب مع الوحوش المنبعثة من حكايات الجدة والرسوم المصورة. وجد ديل تورو في هذه الكائنات موئله البديل عن الغياب المتكرر للوالدين وملاذه خارج تشدد الجدة الراعية لتنشئته الكاثوليكية. كبرت معه هذه الوجوه التي سكنت بيته حقيقة من خلال التماثيل والوجوه الشمعية التي تملأ كل زوايا الفضاء، واحتلت مخيلته وفلسفته في الحياة، لتصبح شخصياته المفضلة في سيرته السينمائية الحافلة.

في “شكل الماء”، يخاطب العم العجوز الشابة إليزا محاولا إقناعها بالتخلي عن إنقاذ الوحش لأنه “غير بشري”، فتعلق عليه وهي الخرساء بلغة الإشارة: “لذلك علينا إنقاذه.. كي نستحق أن نكون بشرا”. ولعل هذه العبارة تضيء جانبا من العالم الفكري الذي يؤطر رؤيته السينمائية. الخلود، الحب، الصفح…قيم يسائلها الفنان بإعادة بناء العالم الذي يتحرك فيه الكائن البشري ووضعه في تماس مع مخلوقات ووضعيات وجودية مفارقة.

يحل غييرمو ديل تورو بمراكش مجددا بعد أن كان أحد صناع فقرة الماستركلاس في دورة 2018، في تزامن جميل مع خروج فيلمه “فرانكنشتاين” الذي حقق به حلم طفولة، هو الذي ظل مفتونا بالشخصية كما رسمتها الروائية ماري شيلي وكما قدمتها الشاشة العالمية في نسخ سينمائية وتلفزيونية متعددة. كانت شخصية فرانكنشتاين، الوحش الذي يسعى الى قتل صانعه، ملهمة لفكرته التي عبرت العديد من أعماله عن براءة الوحش الذي ليس إلا صنيعة الانسان. نقل غييرمو منذئذ الى المشاهدين عبر العالم قصة تعاطفه مع كائنات تعاني النبذ والتهميش. من حلم طفل إلى مشروع ظل يتعثر لمدة عشرين عاما، يقول المخرج المكسيكي إن هذا الفيلم يغلق دائرة من دوائر انشغاله السينمائي بالكائنات الغرائبية، ليستشرف مستقبلا آفاق جديدة للموضوع السينمائي.

أفلام الرعب والفانتازيا تجعل غييرمو ديل تورو إسما بارزا في أفلام النوع. لكن هذا التصنيف يظل قاصرا عن تقدير اسهامه الإبداعي الذي يذهب إلى ما أبعد. ذلك أن هذه الأفلام بمواضيعها وفضاءاتها ومؤثراتها الخاصة تتلاقح بشكل واضح مع سينما المؤلف بعمقها الفكري وأسلوبها السردي وانفتاحها الجمالي. في فيلميه عن الحرب الأهلية الاسبانية The DEVIL’s Backboneو Pan’s Labyrinth، كانت أسئلة حارقة حول التاريخ والسياسة والوجود تكمن في ظلال عنف الصورة المرعبة.

خلف مشاهد الخوف والغرابة، تغتني الشاشة بمرجعيات أدبية وميثولوجية وسينمائية متنوعة خصبت خيال المخرج الذي يستحضر مدارس مختلفة من تاركوفسكي الى مارتن سكورسيزي مرورا بستيفان سبيلبرغ وجيمس كاميرون. يرى أن بطل فيلم “سائق التاكسي” لسكورسيزي، الذي يؤديه روبيرت دي نيرو ليس إلا “وحشا” صنعه عنف المدينة.

أما أدبيا، فإن الإحالة الى تأثير كاتب الفانتازيا الأمريكي هاورد فيليبس لافكرافت (1890-1937)، أمر يقر به المخرج نفسه، خصوصا في صناعة الشخصيات المتخيلة. وهي نقطة تقود الى عنصر آخر يفسر تميز المخرج المكسيكي. فهو الى جانب رصيده الأدبي والفكري والسينيفيلي، حرفي متمكن في مجال الماكياج والمؤثرات الخاصة، الذي عمل به أكثر من عشر سنوات، مما عزز انسجام المكونات الفيلمية في عالم ديل تورو.

إسما بارزا في سماء هوليود، ومبدعا متوجا على منصات الأوسكار وغولدن غلوب والبندقية والأكاديمية البريطانية للفيلم، يظل غييرمو ديل تورو شديد الحرص على استقلاليته الإبداعية بقدر وفائه لجذوره. فهو أحد أضلاع المثلث الذهبي الذي منح السينما المكسيكية المعاصرة أرفع الجوائز في كبريات المهرجانات الدولية، وركن في قصة صداقة إنسانية وابداعية راسخة مع صاحب “العائد” أليخاندرو كونزاليث إيناريتو ومبدع “روما” ألفونسو كوارون.

من “كرونوس”، فيلم الرعب الطويل الذي أعلن سنة 1993 ولادة مخرج عالمي بالكاد أتم عامه الثامن والعشرين، من بوابة موضوع يتناول فكرة الخلود، الى “فرنكنشتاين” الجديد، تتوالى حلقات فيلموغرافيا زاخرة منحت عشاق السينما متعا بصرية وفكرية استثنائية، مع وعد بعطاء قادم وغزير، مادام الرجل الستيني يعيش فنه بدهشة الطفل الأزلي الذي يسكنه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *