عبد الرزاق بوتمُزّار
اليــوم الـ21
عندما أعدتُ “الأعمال الكاملة لعبد الله راجع-الشّعر” إلى “وزيرْ الثقافة”، التفتَ إلي وقال، من خلف شارَبه الكثّ:
-ابحثْ في هذه السّلة، قد تجد كتابا آخَر.
وشرعتُ في التنقيب عن كتاب يصلح لأن يُقرأ. ثم بعد لحظة:
-شوف، ما كايْن شي قصص، شي روايات؟ راكْ عارْف، أسعادة الوزيرْ، أش تَنْبغي..
أحبّ مُشاكسته، خصوصا في الصّبـاح، حين يكون منهمكا فـي تحضير موادّ عـدد الغد. في الواقع، ليس أمامي فـرَصٌ كثيرة للقيام بجولاتي اليومية في قسم التحرير. رمضانُ إيقاعٌ آخَر مـن العمل تندُر فيه مناسَباتُ الحديث إلى أحدهم.. أزحتُ كتباً كثيرة. لأنْ سبق أنْ قرأتها أو لأنّ “جنسَها” لا يثيرُني.
-قصص، قلتَ؟ ربّما لديّ مجموعـاتٌ، لكنْ ليس هُنا، فـي البيت.. سأحضر لك إحـداها أو رواية، ما لمْ تجـدْ هُنا ما يُناسبك..
وجدتُ إصدارَيْن لم أطلعْ عليهما من قبل. “طنجيتانُوس”، للمسرحيّ الزّبير بن بوشتى، و”في عين الظّلمة”، للقاصّ حسن برما. إصداران قديمان (2008 و2011) لكنْ لم تتحْ لي فرصة تصفّحهما مِن قبلُ.
-لا عليك، سأجد ضالـّتي في هذينِ الكتابَين في انتظار أن تتذكرَني وتتحفني برواية أو قصص.. وْراكْ عارْف أشْ مْن نـُوعْ..
(……….)
(……….)
(……….)
الثالثـة إلا بعض دقائق. جهازٌ يُطفأ. مكتبٌ يُهجَر. مصـعـدٌ يتوقف. تقذف العمارة الجسـد الضّئيل.
أضع نظاراتي السّوداء. أقطع الشّارع، نزولا نحو ساعة نومٍ مُستحَقّة..
السّادسة ودقائق. قيامٌ من “غيبوبة” يومية صارتْ تقليدا له حيّـزه الزّمني في رمضان، الله يْخلف عليهْ.. (عرْفتِ شْحال هادي ما تننعسْ بْنهار؟ من رْمضان الفايْتْ!)..
خدرٌ لذيذ لا يزال يتحكم في ذرّاتِ الكيان الصّائم. طنجيتانوس -المسرحية خيارٌ مطروح.. أجّلتُ تصفح المجموعة القصصية إلى فـرـة لاحقة. جُـوعي إلى المسرح (ولو في ثنـايا كتاب) أكبر. (أين “اختفى” مسرحيّونا والمسرحُ، بالمناسَبة؟)..
خنقتُ السّؤال في صفحـات “طِينْ جاء”..
الإضاءة الثـّامنة*
مَعـيـن الآه
تـُضـاء الحديقة إلى حيث تخرج ديجانير مُسـرعة. تصيخ السّمع للأهـازيج الصّاخبة. تلحق بها وصيفتـُها المُسنّة هيرالـدا..
ديجانير: يـبدو أنّ هرقـلاً على الأبـوب..
هيرالـْدَا: يُفضّل أن يمرّ على المغارة لتفقّد أحوال أنطيوس.
ديجانيـر: ماذا؟ وأنا الـّتي ظللتُ في انتظاره لشهـور!؟
هيرالـْدَا: أنتِ المأوى والأوبة. أمّا المغارة فمجرّد إطلالة خاطفة.
ديجانيـر: وطنجيس، ترى هل عادتْ؟
هيرالـْدَا: عادت؟ من أين عساهـا تعُـود؟
ديجانيـر: منَ المغارة!
هيرالـْدَا: المغارة؟ وَمن أودى بها إلى المغارة؟ إنها مسبية هرقل. والسّبايا، حسب عُرف المعارك، سجينات. فمَن أطلقَ وثـاقها دون علمي؟
ديجانيـر: لـَم أطلقْ وثـاقها. فقط أذنتُ لها بزيارة زوجها، بَعْـد أن أذبل الشّوقُ أحداقها وجرّحَ الحنينُ أنينها.
هيرالـْدَا: كيف؟ ليس من حقـّك أن تتصرّفي في مَسبيّـات هرَقل.. هذا شأنٌ يخصّني وحـدي. أنا المعنية، الأولى والأخيـرة، بطنجيس في غيابِ هرَقـْل… ماذا عساني أجيبه إذا ما افتقدهـا اللّيلة؟
ديجانيـر: هرقـْل تهمّه زوجته اللـّيلة وليس مَسبياتـه. ثمّ، لِمَ كـلّ هـذا القلق! سوف تعود…
هيرالـْدَا: سوف تعود؟ أنا أدرى بهـواجسك مـولاتي!.. أنا مُرضعتـُكِ والأقرب إلى تـوجّساتِك.
كعادتك، لمْ تتغيّري ولن تتغيّري! تغارين عليه حتـّى من هرّة. أيُعقَل أن تـُفكري بهذه الطريقة؟ أأنتِ من تـُفكرين بهذه الطريقة؟ أأنتِ من تـُفكرين أنّ هرقـْلاً قد يستبدلكِ بمسبية؟.. أجُننتِ؟!
ديجانير: لا، لمْ أجَنَّ.. فقط صرتُ أنضَج. وحبّي صار أنقى. هرقـْلُ زوجي وأنا أدرى بنزواته…
هيرالـْدَا: وأنا مُرضعتُكِ ووصيفتك.. والأدرى بحماقات مولاتي!
(لحظـة)
ديجانيـر: كم من مرّة رمقتُه وهو يتلصّص عليهـا بينما هي تستحمّ.. وكمْ من ليـلة تـركني وراح يقتفي رائحة عطرها. أتعقبه خلسة. وما أنْ يُحسّ بي وراءَه حتى يتظاهرَ بالأرق والتعب، ثمّ ينبطح على ظهره، كـأسد لمْ يتمكنْ من طريدته، ويدعـُوني إلى حضنه..
هيرالـْدَا: والآن، مـا عساني أقولُ لهرقـل إذا استفسر عـن غيابها؟
ديجانيـر: ما بدا لكِ.. طنجيس في زيارة لزوجها ولن تتأخّرْ..
هيرالـْدَا: بكـُلّ هذه البساطـة؟، وكأنها ذهبتْ في نزهة!
ديجانيـر: أليستْ نزهة؟.. أنْ تفرّجَ عن قلب مكلوم.. أنْ ترويّ عطشَ الرّوح من معين الآه!…
هيرالـْدَا: آهٍ منكِ ومن هذيانِك.. أنتِ وهذا الحُبّ إلى الجحيم!
سـوف أُعمل سحري لاستحضارها في الحال.. أحرق قرنَ الغزال الأركاديّ، وسوف تأتي على سحابة دخانه…
ديجانيـر: لن ينفعكِ سحرُك!
هيرالـْدَا: سترَيْن! ليست المـرّة الأولى ولن تكونَ الأخيرة، وإلا لماذا احتفـظ بي هرقلُ إلى جانبه كـُلَّ هذه الحِقَب؟
ديجانيـر: لن ينفعكِ سحرُك ولا أبخرة قرُونِ الغِزْلان الأركادية كلـّها..
هيرالـْدَا: وَما أدراكِ؟
ديجانيـر: لأنّ طنجيس مُتدثّرة بلبدة الأسد النّيمي.. واللبدة -كما أخبرتِني بنفسِك يـا وصيفتِي ومُعلّمتي- تحمي مَن يرتـديها من مفعولِ أيّ سحر!..
هيرالـْدَا: يا لَلمُصيبة ! وكيف تُسعفـُكِ حماقاتُك…
(……….)
(……….)
(……….)
نبّهـَني صوتٌ تسلّل من النافذة العُلوية. الله أكبر، اللهُ أكبر.. وضعتُ الكتابَ جـانباً..
عـُدتُ من أزمنة هرقـلَ الأسطورية. بدّلت ملابـسي. هبطتُ بعضَ أدراج. سرتُ في زقاق ضيق، في زمنٍ واقعيّ.. لففتُ يسـاراً. دخلتُ الباب الضّيقَ لـ”ريسْتــُو” الحيّ الخلفي، اسـقبلـتني رائحة حريرة حـامْضة..
***
*طنجيتـانوس -الزّبير بـن بوشتى -منشورات “ومضة” -الطبعة الأولى يونيو 2011 – ص. 42 -43
