عبد الرزاق بوتمُزّار
اليــوم الـ27
بعْدَ مغرب اليوم السّابع والعشرين، غادرتُ “زاويتي” بعد العشاء. سرتُ في اتجاه “ساحْة لحْمَام”. كنتُ على موعد مع صديق، قبل أن أتصل به وأطلب منه القدومَ قربَ محطة “التراموايْ”. خفتُ أن أتوهَ عنه أو يتوه وسط كلّ هذه الأجساد، المُتهادية مثلَ قِرَب حريرة.. رأيته قادما، في يده اليُمنى وعاءان بلاستيكيان وفي اليُسرى سيجارة.
اتخذنا مجلسا داخلَ أقرب مقهى. في خارج الفضاء لا طاولة واحدة شاغرة بين العشرات، التي تحتلّ قسما كبيرا في الساحة. (ليستِ المساجدُ وحدها الملأى بالمُريدين والشّهرُ للعبادة) قلتُ لي، وأنا أطلب “النصّ -نْصّ”، كما العادة..
كلـّفه شخصٌ بإيصال بعض النسخ من كتاب إلى مدينته البعيدة. في السّاكُوش، أيضاً، ثمة عدد من “المناهل” ومؤلَّفٌ (عراقيّ، على ما أذكر) عامرٌ أخطاءً وتـاوُزات، وهو الذي يتحدّث عن تجاوُزات الكُتّاب وأخطائهم!).. تصفّحتُ الكتاب وأعدته إلى الوعاء فوق الكرسيّ الشاغر. تناولتُ المجلة وهمَمْت بالنهل من بعض أوراقها حين مرّ إلى جانبنا شخصٌ تعلّقَ به بصرُ مُرافقي..
-إنه هو، ألم تنتبهْ إليه؟
-مَن يكون؟ سألتُ، وأنا أتابع خطوات الرجل إلى داخل المقهى.
-الأستاذ عبد السّلام مصباح.. إنه هو، بكم تراهن أنه هو..
-لن أراهنك بشيء، ببساطة لأنه لمْ يسبقْ لي أن التقيتُه! لماذا لا تدعوه لمُجالستنا؟!
-سأحاول، إنه رجُل تُمتع مُجالستُه.
وكذلك كان. تركه مُرافقي إلى أن دفع ثمنَ مشروبه وعبَر بالقرب منا، فناداه:
-سّي عبدْ السّلام، أستاذ..
تطلّع إليه، مُبتسماً، ثمّ ما لبث أن التفت إلى الكتب فوق الكرسيّ قبالتنا ومدّ يده نحوها. تناولتُ الوعاءين البلاستيكيّين وأفسحتُ له مكاناً للجلوس.
-آه، أنتَ مْن صْحابْ المَناهلْ!؟..
قال، وهو ينظر إليّ بابتسامة وسعت الفضاء.
-لا، المجلة، في الحقيقة، ليستْ لي.
أجبته، وأنا أومئ له برأسي جهة مسخوط الصّحافة* الضّاحك إلى يميني.
-لديّ جميعُ أعدادها، هذه “المَناهل”، من أولها إلى الأخـر..
استدركَ الشاعرُ، وهو ينقل نظراته بين وجهَينا، ويده تمتدّ إلى نظاراته المُتدليّة على صدره بخيط أنيق، يُداعبُها برغبةٍ أكيدة في التصفح . قال كلاما جميلا عن الكِتاب في صيغته الورقية، التي تحدّثَ عنها بحبّ كبير، مصحوب بحركات كثيرة، خصوصا من أصابع يده..
ثمّ، بعدَ أن قدّم أحدَنا إلى الآخَر (مُتأخرا) شرعَ مُرافِقي يطرُق مع جليسنا محطات سابقة. (لمْ ألتَق هذا الشّاعرَ ـن قبلُ، لكنْ كان في لائحتي الفيسبوكية).. وهناك أتابع إسهاماته القليلة في عالم الإلكترُون.. خـاضا في مواضيعَ مُختلفة. اكتفيتُ بمُتابعة حديثهما، بلكنة شمالية محبوبة. تـَكلّما بحُرقة بيّنة عن فراق مدينتيهما. (وعلى فراقِ مدينة كلـّمتُني بحُرقـة غيرِ بيّنة) في تموّجات دخّان سيجارة تحترق بين أصابعي..
في اللّيل المُتأخًر، نقرْتُ حروف اسمه فطلعتْ لي بعض الأبيات، من “حاءات مُتمرّدة”:
أخذوا قلبي
وصورة مَن أهوى
مَن تعشقُني
مَن أعطتْني الحُلم رَبيعاً
وسقتْني الحَرْف
يَنابيعا..
(……….)
(……….)
(……….)
ربّما يكون هذا كتابي المُوالي. قلتُ لي، وأنا ألتفت إلى رفيقي فـي الفترة الرّاهنة: “أبجدية الوُجود -دراسة في مراتب الحُروف ومَراتِب الوُجود عند ابن عرَبي”، لشاعـر آخَر،من مدينتي، أحمد بلحاج أيت وارهام..
بُذور الظّلال*
“الحرْفُ مُوسى والألفُ العَصَا”
~~~
“الألِفُ ليسَ بحرف، بل هو قيّومُ الحُرُوف”
~~~
“الوُجودُ ظهَرَ بالباءِ”
~~~
“الباءُ هيّ الرّوحُ والذاتُ”
(ابن عرَبي)
“الحَرْفُ صورةٌ جسَدية”
(المؤلّف)
……….
بعـد الحُوتاتِ الستّ وكأسِ الشّاي المُنعنع، تركتُ عالَم السّويقة الضاجّ. عُدتُ إلى عالَم ابن عرَبي، الهادئ. وقرأت إلى أن تذكّرتُ أنْ عليّ أن أشغّل الحاسوب وأتّصل بعالَم آخَر، افتراضيّ.. وأنْ عليّ أن أدبّج آخرَ حلقات هذا التمرين الاختياريّ على الكتابة، والأزمنةُ ذاتَ رمضانْ..
