عبد الرزاق بوتمُزّار

اليـوم الـ25

كنتُ قد استأذنتُ في التأخر بعض الوقت صباح الأحد. لن “أبكر”، كما فعلتُ في الأحد الأخير، حين ركبتُ قطار الخامسة صباحا.. ولأنّ النهار مرّ مُصهدا فقد طال ليلُ مرّاكشَ حتى ساعات الصّباح التالي..

في السادسة، انطلق من مُنبّه الهاتف ذلك الصّوتُ الأنثويُّ الذي لا يدِبّ الكللُ ولا المَللُ إلى نبرته، الرّتيبة كما تفاصيل هذي الأيام الجائعة..

أقوم، مُتثائباً، بعـ تـذكير من صـوت حقيقيّ، هذه المرّة، بأنْ قـد حان وقتُ الجدّ.

ثلاثة أجساد صغيرة ناعسة (في وضعيات مُضحكة). نتبادل تعليقا حول ذلك، ونحنُ نتطلع إلى فراق مؤقت يضبط حيـاتنا منذ زمن (ستعيش طقوس هذا النهار والليل وحيدا)..

السابعة. تتحرّك الناقلة العملاقـة هادرة في اتجاه الشمال. اتخذتُ مجلسا قرب إحدى نوافذ الدّابة في الجهة التي لن تتسلل إلي فيها أشعة الشّمس. أخرجتُ “في عين الظلمة” وشرعتُ في القراءة، والنهارُ يطرُد آخرَ فلول الليل..

رحلة أخرى*
في رُكن خانق من أركان البيضاء المُمزَّقة، وقف أحمد ينتظر بداية الـرّحلة. تبحث الوجوهُ عن حتفها المعهُـود. تسأل عن الغائب النائي والحبيب البعيد. الكلّ بخير ولا بأسَ. وعيون أتعبَها هروبُ الأجساد الطيّعة وعبثُ الطاحونة البغيض. وكما ترَون، فنحْسُ الأيام ما زال قادراً على حمْل العظام أمام فخاخ ثعلبية تراقب يقظة المُرهَقين وأرقَ الحائرين القاتلَ.
تزدحمُ المحطة برهبة التأخير وحدّ العقاب. تقفز الوجوهُ على بعضها لتقتلَ رياحَ السّؤال:
ابتعدْ عني فأنا لا أحبّ جِلدَ الأفعى.
انتبهْ.. هذا من شـأني.. وأنتَ لا.
والحياة العَبوسُ تفضح فشلَ المُنتهى. تأتي الحافلة زاحفة، تحمل في بطنها بقايَا نعاس وجماجمَ مُفرَغة. وتنطلق الرّحلة.. أطفالٌ وشبابٌ وشيوخ يلتصقون ببعضهم البعض. أنظر إلى الأفواه والوُجوه التي تكاد تـُلامس خدّي. وقتَ الازدحام قالوا، وميلادُ الضّجرِ والاعتراضُ ممنوع. تفرّ الأصواتُ من حناجرها. يرسم سوادُ الشَّعر حداداً مُتماوجَ الحُدود. ويستسلمُ الرّكاب لتلك الرّغبة الدّفينة في التجديف ومُعارَكـة الزّمَن الأعور، ولا شيءَ يصاحب صمتَ الرّحلةِ غيرُ أدخنة المصانع وسُجونِ الأحلام الموبوءة (أيّتها الأرواحُ الغائبة اُرقصي، فشاهدُ هذا الصّمتِ قال واستراح!)..

تتناسلُ ثقـوب الذاكرة. تسقط الأوراق. أرحل عـن البيضاء، وأحْمل همّي إلى الجديدة. رحلة أخـرى وامتحـانٌ آخَرُ للتأكد من صلاحيتي لتنفيذ المهمّة التي قالوا عنها صعبة.. وكلام الأوراق المدغومة وأوامر وتعليمات.
يأخذنِي طقسُ الحافلة الثقيلُ وأعودُ لدقائق البداية. بجانبي يجلس شيخٌ مُسنّ ينتشر فوق المقعد كتلة لحمية رخوة جعلت السّفرَ جحيماً من الضّيقِ والامتعاض وتلك الأحاسيسِ المُقلقة.. هروب المـوتى، شرودُ المُتعَبين. هجرة أحلام الطفولة البعيدة، والرّحلة تفاصيلُ يومية جارحة ترافقني منذ بدأتُ أميّزُ بين ريح الشَّمال وبين خلاء الجنوب..
(……….)
(……….)
(……….)

محطة الدّار البيضاء -المُسافرين. استيقظ ما بقي رخواً من جسدي المُتخشّب. انتهى جزءٌ من رحلة اليوم. تاكسي صغير من المحطة نحو درب عُمَر.. مصعدٌ يتوقف. جسد يدلفُ إلى الدّاخل. جهازٌ يُشغّل، وهاتِ ما في ساكُوشِ غَلاّتِ اليوميّ المُرهِق..

الثالثـة وبعض دقائق. غرفة صامتة. فراغٌ وصهدٌ وجوع. أفتح الأضمومة. بقيتْ لي قصّة واحدة وأنتهي منها. يقترب النوم ويقترب، والحروف تزدادُ ضبابية، إلى أن…

السّابعة ودقائق. أصواتٌ تتسلل إلى الغرفة الوحيدة. نومة لذيذة تُكسَر. لا بأسَ، قلتُ لي. لأدعْ بعضَه للّيل، هذا النومُ..

نزلتُ أدراجاً. لففتُ يساراً. سُمع في الأرجاء صوتُ الأذان. الله أكبرُ، الله أكبر.. أدلفُ إلى ريستُو الشّريفة، تستقبلني رائحة سمكاتي السّتّ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *