عبد الرزاق بوتمزار -le12.ma
اليومُ الثـ3ـالث
يومُ الجمعة.. يـوم استـثنائيّ بكل المقاييس حتى في الأسابيع العادية، فكيف به في رمضان..
الكـُلّ يسارعُـون الزّمن ليُنهُوا مهمّاتِهم قبل الوقت المعتاد. كثـيرُون يُمَنّون النـّفسَ بأن تُرسَل “الخُبزة إلى الفْرّان” قبل الوقت المُحدَّد، عساهُم يظفرُون بامتياز تأدية صلاةِ الجمُعة في أقرب مسجد.. تدُور العجلة منذ الساعات الأولى لهذا اليوم بسرعة أكبر.. لكـُلّ أمنية في أفق الانتظارات!
في بالي مُخطط خـاصّ: عليّ أن أنهيّ مهامّي بأقصى سرعـة ممْكِنة. سيكون رائعاً، إذن أن أنتهي من كـُلّ شيءٍ قـبل الثـّانية مساء.. وكذلك كان. فـي الثـّانية والنّصف كنتُ فـي “كـازا ڤوايّاجُورْ”: سأشرب الحريرة في وسط عصافيري في مرّاكش!..
في المقطورة كان الكلامُ قليلاً. جلستُ في أول مقعد شاغر. وبدون مُقدّمات انغمستُ في “الأعمال الكاملة -الشّعر، لعبد الله راجع”، الذي كنتُ قد بدأت قراءته قبل أيام ولمْ أجد بعد ذلك الوقتَ لإنهاءِ قراءته..
وأن تقرأ في المغرب، في مكان كالقطار، هوايةٌ تستتبع كثيرا مِن رُدود الفعل.. مِن خلال نظّاراتي السّوداء كنتُ، بين صفحةٍ وصفحة، أنظر إلى تعبيرات الوُجوه حيالَ هـذه الهواية “الغريبة”: القراءة..
ليستْ لديّ تبريراتٌ أو تفسيرات، لكنْ تكوّنتْ لديّ قناعة بأنّ نسبة كبيرة من المُحيطين بك في مكان مُغلـَق كالقطار يصعُب أن يُصدّقوا أنك تهوى القراءة فعلاً!.. تمّة حاجزٌ نفسيّ لدى شريحة كبيرة ترفض الاعتراف بالقِراءة هوايةً. أذكر أنه -قبل 15 يوماً- كـان لي نقاشٌ قصير مع شخص كان يجلس إلى جانبي، أصَرّ، بغرابة، على أنّ “هُناكَ، دائماً، أماكنَ للقراءة غير عربات القطارات!”.. حين شرحتُ له أنّ طبيعة عملي، مثلاً، لا تسمح لي بالقراءة إلا في مثل هذه الأماكن بالتحديد، لمْ يُردْ أن يستوعب أو يتفهّم. تركتُه لأفكاره وتبريراته “الغريبة”، بالنسبة إليّ، وغُصتُ فـي عوالمِ راجع الشّعرية.
اليوم، كان الكتابُ نفسُه بين يديّ. لكنْ إلى جانبي ركـّابٌ آخرون. شابّ يُحدّق فيّ بإصرار غريب. وكأنه يُريدُ أن يعرفَ إنْ كنتُ أقرأ فعلاً أمْ إنّ الكتابَ بين يديّ هو مُجرّد أكسسوار لأمرٍ ما.. كنتُ، كلما انتهيتُ من صفحة وهممتُ بالانتقال إلى الموالية، أطوف بعينيّ على المحيطين بي فإذا بذلك الشّاب يواصل التطلع إليّ.. بَعْد كيلومترات وكيلومترات، وأنا مركّز على حروف الكتاب، أبْعَدَ عني نظراتِه. ربّما اقتنع، أخيراً، بأنني أقرأ فعلاً.
وحين تعود من أجواء الكـُتب الرائعة إلى الواقع غيرِ الرائع، تُسائل نفسَك: ما جدوى القـِراءة، وحتى الكتابة؟..
-مُؤسفٌ ما جرى اليومَ، حقيقةً.. مؤسف ومؤلمٌ جدّا.. كيف يقتُل كهلٌ زوجتَه وأمّ أولاده.. وفي هذا الشّهر المبارَكِ تحديدا!؟
قالتْ، وهي تنظر إلى الصّغار في بهو الدّار القائظ.
-متى ستتكرّم علينا بمُكيّف، بالمناسَبة؟
تكتفي بالنّظر إلى عينيها. أسئلتها وتعليقاتُها تصل إلى مسمعكِ ُمشوَّشة لكنْ واضحة، وأنتَ تحاول أن تبحث بين القنواتِ عن واحِدة تقول الواقعَ، فلا تجد.. لماذا يقتل الإنسانُ الإنسان؟ يظلّ السّؤال مُعلَّقاً بلا إجابة فـي قنوات عارية، خصوصا من المصداقية.
رجلٌ فـي السّتين أو أكثر.. ترى مـا دافعُه إلى اقتراف الجريمة؟ ما عساها كانتْ كلماتُها الأخيرة وهي تتلقى تلك الطعنات القاتلة؟ أيّ مؤسَّسة هذه التي تنتهي بقاتِل ومقتول؟ والأولاد؟ وكـُلّ القُبلاتِ التي سبقتْ ولادة الأولاد؟!.. وارتعاشات الجسدَيْن في آخر اللـّيالي على إيقاعاتِ الموسيقى أو صمتِ الحُبّ.. هل كانتْ مُجرّدَ فُصولٍ عبثيّة في ترَاجيدْيا بئيسة تنتهي بجسَدٍ مُسجّى وآخَرَ واقفٍ يرتعش كرهاً واليدان القاتلتان تقطرانِ بدماء الجُرمِ المشهود؟!..
وتناسلت الأسئلة في الذهن المكدود. بعدد حبّات الحمّص والعدس في آنية الحريرة السّاخنة، بعدد فـُصوص الملح في طعام عِشرة السنين.. لماذا تُلحّين -إلى هذا الحدّ- في إصرارِكِ على سدّ شهيّتنا، أيّتها المدينة المُتبرّجة القاتِلة؟..
كلامٌ قليل.
وفي سطح بيتٍ واطئ، سبقَ إلى الرّئتينِ دخّانُ سيجارة عصيرَ اللّيمُون والجزر..
صدري مُثخَنٌ جراحاً ومواجعَ، كيف تستقبلينني بخبر كهذا أيّتُها المدينة القاتلة!؟
