الطريق الى طاكسي مراكش، العاشرة و43 دقيقة.. الأمطار الغزيرة التي شهدتها المدينة الحمراء، بعد عشاء ثاني أيام رمضان بدأت تخفّ تدريجيا، لكنها متواصلة وإنْ بوتيرة أقلّ. فرصة لمحاولة قطع المسافة بين المقهى ومحطة التاكسيات دون أن “أدوّش” بملابسي..

*مراكش- عبد الرزاق بوتمزار le12.ma

العاشرة و43 دقيقة.. الأمطار الغزيرة التي شهدتها مدينة مراكش، بعد عشاء ثاني أيام رمضان بدأت تخفّ تدريجيا، لكنها متواصلة وإنْ بوتيرة أقلّ. فرصة لمحاولة قطع المسافة بين المقهى ومحطة التاكسيات دون أن “أدوّش” بملابسي..

ما يثير في كل مرة تشهد “مدن الشّمس” سقوط أمتار، رغم أشغال الحفر والإصلاح والكنس والشفط ولست أدري ماذا مما تفعله كل هذه الدوابّ الحديدية الثقيلة الجاثمة على شوارعنا وأزقتنا، أنّ “وديانا” مُصغّرة سرعان ما تتشكّل على جنبات الطرق والشوارع.. وضعٌ يفتح المجال لأسئلة وتساؤلات واستفسارات إنكارية في الغالب:

إلى متى يتكرر هذا المشهد كلما نزلت “رحمة الله” على مدننا؟ لماذا لا تجد الجهات المعنية، في أحد أوراشها الكثيرة المتواصلة صيفا وشتاء، خريفا وربيعا، في أجواء مشمسة أو مُتلبّدة، حلا نهائيا لهذه “الإشكالية”، التي تجعل مدننا المسكينة تفقد “هيبتها” المزعومة في لحظة؟…

أعادتني من تساؤلاتي سقطةٌ وشيكة إثر تزحلق صندلي البلاستيكي فوق رخام أحد المحلات المسقوفة المصطفّة من “دار الضو” حتى “القواس”.. كدت أصير موضوع شفقة أو تشفّ لمجموعة من هؤلاء الذين تجدهم دائما بكثرة مثيرة للاستغراب حتى في مثل هذه الظروف والأماكن حتى في أجواء “كلبية” مثل هذه كما يقول الفرنسيون..

 كان من سخرية الأقدار بي أنّي نسيت انتعال حذائي وأنا أغادر رواقي الفنّي في قلب المدينة العتيقة في هذا اليوم تحديدا، الذي ستصبّ فيه “الشّتا” على المدينة “خيط مْن السّما” طوال قسط وافر من ساعات الليل، لأجدني أقوم برحلتين في هذا الجو الممطر وأنا أنتعل “صندالتي” البلاستيكية بجوربين زادتهما المياه التي تشرّباها ثقلا وانزلاقا تحت قدمَيّ.

غمغمت بكلام غاضب غير مسموع، وأنا أخطط للكيفية التي سأقطع بها الشارعين العريضين في هذه الأجواء كي أصل إلى “الطاكسي” بأقلّ الأضرار الممكنة.

وجدتُ “وادْ” حقيقيا في مواجهتي في جانب الشارع الكبير العريض، لكنْ “المغشوش” وفق ما يبدو، وإلا ما معنى كلّ هذه المياه التي لا تجد في كل مرة بالوعات قادرة على “امتصاص” هذه السيول؟..

لا علينا، وصلتُ إلى الطاكسي وقد ابتلّ جورباي تماما، بل قل إنه لم ينقصهما إلا بعض “التيد” أو الصابون حتى يُغسلا.

 انحشرتُ في المقعد الخلفي بعد السلام. في الخارج، الأمطار تستمرّ في الهطول في صبيب متواصل يُذكّر بأمطار “أيام زمان”. لم تشهد المدينة ساعات متواصلة من التساقطات منذ سنوات.

كان هناك شخصان يجلسان أمامي: شاب وسيدة متزوجة، تحمل بين يديها رضيعا أو رضيعة. في المقعد الأمامي شاب مشغول بهاتفه ولا يكاد يردّ حتى السلام على من يركبون. الكرسي إلى يميني كان لا يزال شاغرا. رغم ذلك، لاحظتُ أنّ السائق (وكان مُسنّا، تجاوز الستين) قد تحرّك مغادرا محطة “القْواس”.

-باقي خاصّاك شي بْلاصة.. لا؟

-قلتُ للسائق، مُنبّها. أجابني:

-باقي خاصّين جوج بلايْص، نعاماسّ…

بلعتُ لساني وسكتت. ربّما أحد هؤلاء الذين ركبوا قبلي متعجّل الوصول إلى وجهته ودفَع سعر الكرسيين الشاغرين. لكنْ إن هيّ إلا أمتار قليلة قطعتهما السيارة وسط ازدحام مروري في هذه الأجواء الاستثنائية حتى فهمتُ لماذا لم ينتظر السّائق حتى تمتلئ جميع الكراسي.

 في مثل هذا الطقس مؤكد أن يكون هناك من هو مستعدّ لأن يدفع ضعف التسعيرة إن اقتضى الحال فقط حتى “يتضرّڭ مْن الشّتا” حتى لو لم تكن الرحلة في اتجاه وجهته.. وكذلك كان..

ما إن خرج الطاكسي من المحطة ولفّ يسارا، ثم يمينا لينطلق في “طوالة” المْحاميد حتى أوقفه شخصان بديا لي “غريبين” قليلا من خلال بدلتين ثقيلتين تنسدلان على هيكليهما فارعي الطول (غليظي المنكبين).

وتأكّد لي أن الراكبين كانا فعلا “شخصيتين استثنائيتين”، فما إن فُتح الباب الجانبي حتى سبقتهما إلى أنوفنا في الداخل رائحةٌ مُميّزة تشي بنوعية “حرفتهما” المنقرضة أو هي في طور الانقراض.. همّت السيدة بالخروج ريثما يركب أحدهما قرب الشاب الجالس إلى يسارها، لكنّ الراكب الجديد عالجها بلكنة مميّزة:

-وا عا خلّيك، راه البرد عْلى الزّْيادة، الله يصلح.. دابا يضربها البْرد، راه الجوّ، كي تشوفي، مقلوب، اللهمّ بارك…

“يا لَحظّي الليلةَ”، قلتُ في نفسي، وأنا أواصل تسجيل رؤوس الأقلام عمّا يحدث في هذه الرحلة في هاتفي، متظاهرا بأنني لا أهتمّ بما يجري داخل الطاكسي، الذي بدا لي سائقه شديد الحذر في سياقته، تحسّبا ربما لأيّ طارئ، خصوصا من “مّالينْ المواتر”، الذين لهم “قانون سيرهم” الخاص…

لا أخفيكم أنّ رائحة الراكب الاستثنائي الجالس إلى يميني خنقت أنفاسي وطغت على غيرها من الرّوائح في هذا الفضاء المغلق المتحرّك، لكنّ ذلك لم يمنعني من التساؤل بشأن هذا الوضع الغريب: ڭراب في عزّ الشتاء!.. وزاد استغرابي أنني منذ أزل وأنا أتنقل بين المحاميد والمدينة، وبين المدينة والمحاميد، في كل الأوقات والفصول والظروف، ولم يسبق لي أبدا أن كان أحد الڭرّابة بين الركاب الذين قطعوا معي إحدى هذه الرحلات.. والآن، في هذا الطقس الممطر والبارد، يركب معي ڭرابان وليس ڭراب واحد.!

وطوال ما تبقى من عمر الرحلة، انشغل عقلي بالأسئلة: ترى، كيف يتدبّر ممتهنو هذه “الحرفة” أمور معاشهم في هذه “الظرفية الصعبة”، خصوصا في هذه الأيام الباردة والممطرة؟.. “آه”.. قلتُ لي، بعد لحظة: “اللي بغى الڭراب فْ الصّمايم يتّصاحب معه ف الليالي!”..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *