في الوقت الذي يشهد فيه المشهد السياسي الوطني تحولات عميقة تفرض على الفاعلين السياسيين تجديد أساليب اشتغالهم وتعزيز مصداقيتهم، تتأكد من جديد الحاجة إلى الإلتزام الجاد بالتوجيهات الملكية السامية التي طالما شددت على ضرورة الإرتقاء بالممارسة الحزبية وجعلها في خدمة المواطن والوطن.
فالأحزاب السياسية، بإعتبارها مؤسسات دستورية محورية، مدعوة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تحمل مسؤوليتها السياسية والأخلاقية في تزكية المترشحين، وعدم تحويل هذه العملية إلى مجال للمحاباة أو لتصفية الحسابات الضيقة.
إن التزكيات الفاسدة لا تفرز سوى نخب هجينة تسيء إلى صورة العمل السياسي، وتعمق فقدان الثقة بين المواطن والمؤسسات، وتفرغ الإنتخابات من مضمونها الديمقراطي الحقيقي.
لقد أكد جلالة الملك محمد السادس نصره الله، في غير ما مناسبة، على أن تخليق الحياة السياسية هو المدخل الأساس لبناء مؤسسات قوية، وأن الأحزاب مطالبة بإعادة النظر في آليات اختيار مرشحيها على أساس الكفاءة والنزاهة والإلتزام بخدمة الصالح العام، لا على أساس الولاءات والمصالح الشخصية.
من خطاب العرش2017:
…وإذا أصبح ملك المغرب، غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟
لكل هؤلاء أقول :” كفى، واتقوا الله في وطنكم… إما أن تقوموا بمهامكم كاملة، وإما أن تنسحبوا.
فالمغرب له نساؤه ورجاله الصادقون.
ولكن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، لأن الأمر يتعلق بمصالح الوطن والمواطنين. وأنا أزن كلامي، وأعرف ما أقول … لأنه نابع من تفكير عميق…
وفي هذا السياق، تلعب وزارة الداخلية دوراً محورياً في صون نزاهة الإستحقاقات ومواجهة الإنحرافات التي تسيء إلى العملية الإنتخابية.
فقد أصبحت الوزارة أكثر حزما في رصد ومتابعة المنتخبين الفاسدين، واتخاذ الإجراءات القانونية والإدارية في حق كل من ثبت تورطه في ممارسات تمس بنزاهة الإنتخابات أو تخل بشروط الأمانة والمسؤولية.
وتجسد هذه المقاربة الصارمة توجهاً وطنياً يروم حماية الممارسة الديمقراطية من الطفيليات الإنتخابية، وتطهير الحقل السياسي من العناصر التي تتخذ من العمل الحزبي مطية لتحقيق مصالح شخصية أو شبكات نفوذ محلية.
كما أن التنسيق المستمر بين وزارة الداخلية والأحزاب السياسية يعد ضمانة أساسية لإرساء قواعد الشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة، انسجاما مع روح الدستور وتوجيهات المؤسسة الملكية.
إن الرهان الحقيقي اليوم لا يكمن فقط في تنظيم انتخابات نزيهة، بل في إفراز نخب سياسية قادرة على ترجمة إرادة المواطنين إلى برامج واقعية، وعلى ممارسة السياسة بمعناها النبيل الذي يقوم على خدمة الوطن لا استغلاله.
فالتاريخ لا يرحم الأحزاب التي تتخلى عن أدوارها التأطيرية وتغض الطرف عن الفساد داخل صفوفها، كما أن المواطن المغربي أصبح أكثر وعيا ومطالبة بالمحاسبة والشفافية.
إن تخليق الحياة السياسية ليس شعاراً عابرا، بل هو ورش وطني مستمر، تتقاطعه فيه مسؤولية الدولة والأحزاب والمجتمع، من أجل بناء مشهد سياسي قوي، شفاف، ومتماسك، يكون في مستوى تطلعات المغاربة وفي صميم الرؤية الملكية لبناء مغرب المؤسسات.
*عمر المصادي-باحث في السياسات العمومية
