أطلقت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها (INPPLC) طلب عروض لإعداد خريطة متكاملة لمخاطر الفساد في ثلاثة مجالات رئيسية بقطاع الصحة، بغلاف مالي قدره 2.490.000 درهم.
تحليل إخباري – محمد ابن إدريس
يعاني القطاع الصحي في المغرب، منذ عقود طويلة، من انتشار الرشوة والفساد، مما أثّر بشكل مباشر على جودة الخدمات وحقوق المواطنين في الحصول على الرعاية الصحية.
كما يواجه المرتفقون يوميًا تأخيرات في تقديم الخدمات، تفاوتًا في المعايير، ونقصًا في الشفافية، وهو ما يزيد من إحباطهم ويضعف فعالية النظام الصحي.
وبالتالي، يفرض هذا الوضع اعتماد آليات فعّالة لمكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية، وضمان إنصاف المواطنين، من خلال إصلاحات مؤسسية ترتكز على حكامة قوية ورصد دقيق للمخاطر، بما يحسّن جودة الخدمات ويرفع من كفاءتها.
وفي هذا السياق، أطلقت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها (INPPLC) طلب عروض لإعداد خريطة متكاملة لمخاطر الفساد في ثلاثة مجالات رئيسية بقطاع الصحة، بغلاف مالي قدره 2.490.000 درهم.
وتعوّل الهيئة على هذه الدراسة لتقديم أدوات عملية واستراتيجية تحدد المخاطر، تكشف نقاط الضعف البنيوية، وتضع خطة عمل فعّالة للحد من الفساد، بدل أن تبقى حبرًا على ورق كما حدث في تجارب سابقة.
ويؤكد خبراء القطاع أن تشييد المستشفيات والمراكز الصحية، وفق معايير الجودة، لن يكون كافيًا إذا استمر الفساد في استنزاف الموارد وتقويض الثقة في النظام الصحي.
لذلك، تركز الدراسة على تعزيز الحوكمة، ترسيخ النزاهة، وضمان استفادة المواطنين من خدمات صحية عالية الجودة وفق معايير الشفافية والمساواة، لتكون نقطة انطلاق نحو إصلاح فعّال ومستدام للمنظومة الصحية الوطنية.
نطاق الدراسة والمحاور الأساسية
تشمل الدراسة ثلاثة محاور رئيسية تمثل الركائز الأساسية لقطاع الصحة، وهي:
– خدمات الرعاية والعلاقة بين المواطن والمستشفى (مسار المريض)؛
– سلسلة القيمة للمنتجات الصحية، بما في ذلك الأدوية؛
– القطاع الخاص، مع التركيز على تنظيم العيادات الخاصة والمصحات والمكاتب الطبية.
ويهدف التركيز على هذه المجالات إلى كشف مظاهر الفساد المختلفة، وتحديد المخاطر المؤثرة على جودة الخدمات وفعالية النظام الصحي، وضمان حقوق المرتفقين في الحصول على الرعاية المناسبة.
أهداف الدراسة وتأثيراتها المتوقعة
تسعى الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، من خلال هذه الدراسة، إلى إجراء تحليل معمق لآليات الفساد داخل القطاع، وتحديد مظاهره، تكراره، شدته، وفهم أسبابه المباشرة وغير المباشرة.
كما تهدف إلى تقييم انعكاساته على جودة الخدمات، الشفافية، وعدالة الوصول إلى الرعاية، مع صياغة توجهات استراتيجية واضحة وخطة عمل فعّالة للحد من الممارسات الفاسدة التي تعيق تطوير المنظومة الصحية.
وتشمل الأهداف الرئيسية تحديد النقاط الحرجة في كل مجال، فهم العوامل التي تسهّل الفساد، تحليل تأثيره على مختلف حلقات السلسلة الصحية، واقتراح حلول عملية قابلة للتنفيذ لتقليص انتشاره.
النتائج المنتظرة وخريطة المخاطر
من المرتقب أن تُسفر الدراسة عن تشخيص شامل ودقيق لمستويات الفساد في القطاع، بكافة مكوناته وفاعليه، يشمل تصنيف المخاطر، رصد أشكال الفساد، تحليل خصائصها وتجلياتها، وقياس آثارها على جودة الخدمات والشفافية وحقوق المواطنين.
كما ستكشف عن نقاط الضعف البنيوية والإختلالات المؤسسية التي تسمح بانتشار الفساد، وقياس تكرار المخاطر وحدّتها، بما يمكّن من وضع خطة استراتيجية شاملة للحد من هذه الظاهرة.
وسيتم إعداد خريطة مفصلة لمخاطر الفساد، على مستوى المراحل والخدمات والأنشطة المختلفة، مع وضع آليات للتتبع والتقييم لضمان تطبيق التوصيات بفاعلية، بما يتوافق مع النظام الصحي الجديد القائم على هياكل وآليات حكامة حديثة.
جمع وتحليل البيانات الميدانية
ستعتمد الدراسة على بحوث ميدانية شاملة مع المرتفقين الذين قصدوا المؤسسات الصحية لأسباب شخصية أو لمرافقة مرضى، على أساس عينة تمثيلية لا تقل عن 2.500 شخص.
كما ستُجرى استبيانات مع الشركات والمزودين المرتبطين بالقطاع، إضافة إلى عينة تضم ما لا يقل عن 100 مهني صحي من أطباء، ممرضين، وتقنيين.
وسيتم إجراء مقابلات مع المواطنين خارج المؤسسات الصحية لضمان حيادية ودقة البيانات، مع تنظيم ما لا يقل عن 10 مجموعات تركيز (Focus groups). وستُحدد مواضيع النقاش والفئات المستهدفة بالتنسيق بين الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها ووزارة الصحة والحماية الاجتماعية، استنادًا إلى مقترحات الجهة المكلفة بإنجاز الدراسة، لضمان شمولية النتائج ومصداقيتها.
تحليل عوامل المخاطر وتقييمها
تغطي الدراسة جميع حلقات السلسلة في المجالات المستهدفة، بدءًا من تحليل المخاطر القانونية والتنظيمية والتدبيرية، وصولًا إلى رصد الممارسات العملية للموظفين والعوامل المحفزة للفساد.
كما ستركز على المخاطر الناشئة أثناء تنفيذ السياسات والإستراتيجيات، إضافة إلى تحليل سلوكيات المرتفقين والمتعاقدين مع القطاع الصحي التي تسهم في تسهيل الفساد.
وسيُطلب من المكلف بإنجاز الدراسة تمييز المخاطر حسب مصدرها، سواء كانت مرتبطة بالمستويات القانونية والتنظيمية والتدبيرية، أو بالسياسات المناهضة للفساد، أو بالممارسات المهنية للعاملين، أو بسلوكيات المرتفقين، لضمان تطوير توصيات دقيقة ومتكاملة.
التوصيات الإستراتيجية وخطة العمل المستقبلية
استنادًا إلى نتائج التشخيص وخريطة المخاطر، ستصدر عن الدراسة توصيات لتعزيز مكافحة الفساد وترسيخ النزاهة في القطاع الصحي، مع خطة عمل قابلة للتنفيذ لتحقيق نتائج ملموسة على المدى القصير وتعزيز الإصلاح المستدام.
وتأتي هذه الدراسة النوعية استجابةً لمعاناة المواطنين من ظاهرة الرشوة ومعضلة الفساد، بعد أن طالبت أحزاب سياسية وفرق برلمانية وجمعيات مهنية ومدنية ناشطة في قطاع الصحة، منذ سنوات، بإجراء مثل هذه الدراسات لكشف الممارسات الفاسدة التي أضعفت جودة الخدمات وحقوق المرتفقين.
واعتمادًا على مخرجات الدراسة، يُتوقع أن تبدأ وزارة الصحة، بالتنسيق مع شركائها المؤسساتيين والأطراف المعنية، فورًا في تنفيذ التوصيات على مستوى جميع الجهات الإثنتي عشرة للمملكة، لضمان العدالة في الوصول إلى الرعاية الصحية، وتعزيز الحكامة والشفافية والمساءلة، وتحسين جودة الخدمات.
فهل ستتمكن المنظومة الصحية من التحول إلى نظام أكثر نزاهة وكفاءة، والإستجابة الفعلية لاحتياجات المواطنين، ووضع حد للفساد المزمن الذي أعاق تطوير القطاع لعقود؟.
