تشهد السياحة المغربية تحولًا استراتيجيًا يضعها في مصاف الوجهات العالمية الأكثر تنافسية، فبعيدًا عن الأرقام القياسية التي حققها القطاع مؤخرًا، يعكس هذا الأداء جهودًا متواصلة لترسيخ مكانة المملكة كوجهة سياحية مستدامة.

تحليل إخباري ـ محمد ابن إدريس

تشير البيانات الأخيرة للقطاع السياحي المغربي إلى تحول نوعي واستراتيجي؛ فالمؤشرات لم تعد تعكس مجرد انتعاش ظرفي، بل تؤكد توجّهًا مستدامًا يعزز قدرة المملكة على ترسيخ مكانتها كوجهة سياحية عالمية منافسة، وقادرة على جذب أعداد كبيرة من الزوار الأجانب وتحويل هذه التدفقات إلى عائدات ملموسة تُعزز الإقتصاد الوطني.

إلى غاية نهاية يوليوز 2025، استقبل المغرب 11,6 مليون زائر، مسجلاً ارتفاعًا بنسبة +16% مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي، فيما ارتفعت العائدات إلى 67 مليار درهم (حوالي 6,50 مليار دولار).

هذا الأداء يعكس دينامية قوية، ويؤكد قدرة القطاع على تحويل التدفقات السياحية إلى ثروة اقتصادية حقيقية ومستدامة.

ولا يمكن فصل هذه الطفرة عن المشاريع الإستراتيجية الكبرى في البنيات الأساسية التي أطلقها جلالة الملك محمد السادس منذ توليه الحكم، والتي أعادت تشكيل خريطة التنمية، وربطت المدن الكبرى بكفاءة عالية، وعززت القدرة الإستيعابية للوجهات، وسهّلت التنقل ورفعت مستوى الخدمات السياحية، ما وضع المغرب في موقع متقدم على خارطة الوجهات السياحية العالمية.

البنيات التحتية محرك لنمو سياحي مستدام

رغم الإنجاز الكمي المسجل خلال الشهور السبعة الأولى من 2025، يظل التحدي الأكبر في تعظيم قيمة كل زائر.

فالعائد المتوسط لكل سائح لا يتجاوز 5,700 درهم (حوالي 550 دولار)، في حين ينفق السائح في إسبانيا نحو 9,500 درهم (حوالي 920 دولار)، وفي تركيا حوالي 8,000 درهم (حوالي 780 دولار).

هذا الفارق يؤكد الحاجة إلى تحويل التجربة السياحية إلى رافعة اقتصادية قوية من خلال تنويع العروض ورفع مستوى الخدمات، مع استثمار العمق الثقافي والثراء الحضاري للمملكة.

تتطلب هذه الإستراتيجية ابتكار عروض شاملة ومتنوعة تشمل مسارات ثقافية وتاريخية، وتجارب رياضية ومغامرات في الجبال والبحر والصحراء المغربية، إضافة إلى مسالك موضوعاتية ترتكز على الحرف التقليدية وفن الطبخ المغربي والفلاحة المستدامة والإبتكار، بما يعزز تجربة الزائر الأجنبي ويضمن استقطاب شرائح سياحية أكثر إنفاقًا وولاءً للوجهة المغربية.

تلعب المشاريع الكبرى، بما فيها شبكات الطرق والمطارات والموانئ وقطاع النقل السككي عبر قطارات فائقة السرعة، دورًا محوريًا في هذا التحول، حيث تربط المدن الكبرى بكفاءة عالية وتقلص المسافات بين الوجهات، مما يعزز الحركة السياحية والتجارية.

ويواصل جلالة الملك، بإشراف شخصي ومتابعة مستمرة، هذا المسار لضمان تنفيذ المشاريع بجودة عالية وسرعة إنجاز تحترم المواعيد، ودمجها ضمن رؤية استراتيجية لتحويل النمو العددي للقطاع إلى ثروة مستدامة ترتقي بالعائد الإقتصادي لكل سائح أجنبي وتدعم التنمية المحلية.

السياحة كرافعة للتنمية الإجتماعية والعدالة المجالية

إن تحقيق “سياحة قيمة” لا يقتصر على زيادة الأرقام والعائدات، بل يشمل دمج البعد الاجتماعي في صلب الاستراتيجية السياحية.

فالحكومة، بمشاركة مختلف الفاعلين الوطنيين والمحليين، مدعوة للعمل على تقليص الفوارق المجالية بين الجهات، وتمكين المناطق القروية والجبلية والصحراوية من الإستفادة من الموارد الطبيعية والثقافية المحلية وتحويلها إلى منتجات سياحية عالية الجودة.

ويبرز دور تشغيل الشباب الكفؤ في مختلف حلقات سلسلة القيمة السياحية، من الإرشاد الفندقي والخدمات الرقمية إلى تنظيم الرحلات والأنشطة البيئية والثقافية، كركيزة أساسية لتعزيز جودة الخدمات وابتكار عروض جديدة.

إلى جانب ذلك، تبرز المرأة القروية كفاعل محوري في اقتراح منتجات محلية أصيلة وذات جودة، بما يثري التجربة السياحية ويوفر دخلاً مستدامًا للأسر.

هذا التعاون الإستراتيجي بين الدولة والقطاع الخاص وجمعيات المجتمع المدني المعنية، يمكّن المغرب من بناء نموذج سياحي عادِل ومندمج، يربط بفعالية بين النمو الإقتصادي والتنمية الإجتماعية، ويحوّل كل زيارة إلى تجربة ثرية ومؤثرة على الصعيد الإقتصادي والثقافي والإجتماعي، بما يضمن تعزيز الإستدامة وتحقيق منافع ملموسة للمجتمع المحلي والفاعلين في القطاع على حد سواء.

المونديال فرصة تاريخية لتحقيق تحول نوعي

بالإستثمار المنهجي قبل تنظيم كأس العالم 2030 بشراكة مع إسبانيا والبرتغال، يمكن رفع عدد السياح تدريجيًا إلى 20 مليون زائر سنويًا، وزيادة متوسط الإنفاق الفردي من 5,700 درهم إلى نحو 7,500–8,000 درهم (حوالي 720–770 دولار)، بما يعزز العائدات الوطنية إلى أكثر من 150 مليار درهم (حوالي 14,5 مليار دولار) سنويًا.

ويظل الإلتزام بتنفيذ المشاريع السياحية في مواعيدها المحددة، من قبل الحكومة والقطاع الخاص، عنصرًا أساسيًا لتحقيق نتائج متكاملة ومستدامة، والإنتقال من منطق “الكم” إلى استراتيجية “القيمة”.

تمثل الإنجازات الحالية خطوة أولى لمسار أوسع؛ فالهدف لم يعد مجرد زيادة الأعداد، بل تحويل كل زيارة إلى تجربة حضارية وثقافية واجتماعية مؤثرة، بحيث يغادر الزائر المملكة برغبة قوية في العودة، ليصبح شريكًا فعليًا في تعزيز إشعاع المملكة عالميًا.

ويضمن الإشراف المباشر والمستمر لجلالة الملك محمد السادس على المشاريع الكبرى تماسك هذه البرامج ضمن رؤية استراتيجية شاملة تجمع بين التنمية الإقتصادية المستدامة، تقليص الفوارق الإجتماعية والمجالية، دعم الشباب، وتمكين المرأة القروية، ليتم تحويل الطفرة العددية الحالية إلى “سياحة قيمة” شاملة ومستدامة، تعود بالنفع على الإقتصاد وتخلق فرص عمل كبيرة ومنتجة في جميع المهن المرتبطة بالقطاع على مستوى كل الجهات الاثنتي عشرة للمملكة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *