تتأرجح الرياضة في بلدنا بين شغف جماهيري عارم وتردد في الاستثمار من قبل القطاع الخاص، مما يُعرقل تحولها إلى محرك اقتصادي حقيقي، فعلى الرغم من المبادرات المحدودة لبعض الشركات الرائدة، يظل التردد هو السمة الغالبة، ما يُشير إلى غياب إدراك واضح للإمكانات الهائلة التي يمكن أن تُقدمها الرياضة كقطاع استثماري متكامل.

افتتاحية – محمد ابن إدريس

في بلدنا، يظل القطاع الخاص مترددًا في الانخراط الكامل في الرياضة، رغم بعض المبادرات المحدودة لمجموعات صناعية ومستثمرين رائدين دعّموا منذ سنوات رعاية الأندية، خصوصًا كرة القدم، اللعبة الأكثر شعبية والأكثر قدرة على تحريك الموارد الاقتصادية والاجتماعية.

يكشف هذا التردد عن عجز واضح في إدراك الإمكانات الاستثمارية للرياضة؛ فالرياضة لم تُعتبر بعد مشروعًا اقتصاديًا متكاملًا قادرًا على تحقيق الربحية والعوائد المستدامة على غرار القطاعات الاستثمارية التقليدية. 

وبالتالي، يتعامل معظم المستثمرين مع الرياضة على أنها نشاط ترفيهي يُقام في نهاية كل أسبوع، وليس كفرصة استراتيجية يمكن أن تولد أرباحًا مالية حقيقية، وتعزز الاقتصاد الوطني، وتخلق آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، إذا ما اعتمدت الأندية والفاعلون الرياضيون إدارة احترافية حقيقية ورؤية استثمارية واضحة.

ورغم استفادة بعض أندية البطولة الوطنية لكرة القدم، ولا سيما في قسم الصفوة، من دعم شركات خاصة، فإن هذا الدعم غالبًا ما يظل في إطار رعاية تقليدية، مدفوعة بالانتماءات الجهوية أو الروابط العائلية أو المصالح الظرفية السياسية أو الانتخابية، وليس وفق رؤية استراتيجية طويلة المدى.

ومع ذلك، تمتلك كرة القدم، شأنها شأن الرياضات الأخرى القابلة للتسويق، إمكانات هائلة يمكن أن تتحول إلى محرك اقتصادي رئيسي، ورافعة للاستثمار، ومصدر لفرص عمل مستدامة، مع تحقيق عوائد ملموسة على قطاعات متعددة مثل السياحة، والنقل، والإعلام، والتسويق الرياضي، والخدمات المساندة.

وتشير الدراسات الاقتصادية إلى أن تطوير قطاع رياضي احترافي يمكن أن يسهم بما يصل إلى 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي ويخلق عشرات الآلاف من فرص العمل خلال خمس سنوات، إذا ما تم اعتماد إدارة فعالة واستثمارات مستدامة.

على صعيد البنية التحتية، تُبرز الدولة المغربية ريادتها الإقليمية والدولية في تطوير مرافق رياضية متطورة وفق معايير عالمية.

فقد استثمرت بشكل مكثف في بناء ملاعب حديثة ومراكز تكوين احترافية، أبرزها “مركب محمد السادس لكرة القدم” في المعمورة بسلا، الذي يُعتبر نموذجًا عالميًا معترفًا به من “الفيفا”، ويجسد قدرة المغرب على التوافق مع أعلى المعايير الدولية.

كما تم تجهيز المرافق الرياضية بأحدث التقنيات العالمية في التدريب، التحكيم، والإدارة، ما يعكس رؤية استراتيجية واضحة للارتقاء بالرياضة الوطنية على المستويين الفني والاقتصادي.

هذه الاستثمارات ليست مجرد إنشاء مبانٍ، بل استثمار في الكفاءات البشرية، الثقافة الرياضية، والقدرة التنافسية للمغرب عالميًا، وهو ما يشكل قاعدة جذب قوية للقطاع الخاص نحو استثمارات رياضية مستدامة تحقق عوائد مالية واقتصادية ملموسة وتفتح المجال أمام تطوير منتوج رياضي متكامل.

في الوقت نفسه، أصبح تطوير المنتوج الكروي الوطني ضرورة استراتيجية، خصوصًا بعد الإنجاز التاريخي للمنتخب المغربي بوصوله إلى نصف نهائي كأس العالم 2022 في قطر، مما عزز صورة المغرب كقوة كروية صاعدة عالميًا.

ويكتسب هذا التطور أهمية إضافية مع استضافة المغرب لكأس إفريقيا للأمم 2025، ما يشكل فرصة ذهبية لتسويق كرة القدم الوطنية، تعزيز المشاركة الجماهيرية، ودعم الاقتصاد الرياضي.

إن استثمار هذه الإنجازات، إلى جانب الأداء المتميز للفئات العمرية المختلفة وظهور كرة القدم النسوية بقوة على الساحتين القارية والعالمية، يمكن أن يحوّل كرة القدم المغربية إلى منتج متكامل قابل للتسويق والاستثمار، قادر على تعزيز الاقتصاد الرياضي، خلق وظائف مستدامة، وتقديم صورة وطنية قوية تعكس قدرة المغرب على المنافسة العالمية.

لكن إنجاح هذه الرؤية الطموحة يتطلب من الأندية والفاعلين الرياضيين إعادة هيكلة منظومة الرياضة بالكامل، تبني إدارة احترافية مبتكرة، ووضع استراتيجيات طويلة المدى. فالتمسك بالنماذج التقليدية وغياب الشفافية والمساءلة يؤدي إلى استمرار الأزمات، كما يظهر من تورط بعض رؤساء أندية كبرى في قضايا فساد ومخدرات، بعضهم منتخبون في البرلمان ويواجهون حاليًا القضاء، مما يعرقل تطوير الرياضة وتحويلها إلى قطاع اقتصادي قوي ومؤثر على الاقتصاد الوطني.

مع تبقي خمس سنوات فقط على كأس العالم 2030، الذي سيستضيفه المغرب بالشراكة مع إسبانيا والبرتغال، لم يعد بالإمكان الاكتفاء بالحلول الجزئية أو السياسات المؤقتة.

أصبح من الضروري الانتقال من منطق الانتظارية إلى منطق الاستثمار الاستراتيجي، الاحترافية، الابتكار، وتفعيل شراكة مستدامة بين الدولة والقطاع الخاص، تركز على استثمار البنيات التحتية الحديثة، تطوير الكفاءات البشرية المؤهلة، وتعزيز الاقتصاد الرياضي في كل أبعاده.

إن كرة القدم الوطنية ليست مجرد شغف جماهيري أو نشاط ترفيهي، بل مشروع اقتصادي واستراتيجي قادر على دفع البلاد نحو مستقبل مزدهر، وتعزيز مكانتها على الصعيد القاري والدولي، وتحويل المغرب إلى وجهة رياضية واستثمارية نموذجية، قادرة على المنافسة العالمية، وخلق فرص اقتصادية مستدامة، وبناء صورة وطنية رياضية قوية تحاكي أفضل النماذج الدولية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *