بين دخان الحـ.ـرب وركام المدن، وُقّع اتفاق غزة ليعلن هدنةً هشّة تُخفي وراءها معركة الإرادات بين السلاح والسياسة، في انتظار انفجار مرتقب.
في تطورٍ لافت يعيد خلط أوراق الشرق الأوسط، أعلنت الأطراف الوسيطة، مصر وقطر وتركيا، مساء أمس الاثنين 13 أكتوبر، عن دخول اتفاق غزة حيّز التنفيذ، بعد إفراج حركة حمـ.ـاس عن آخر دفعة من الرهائن الإسرائيـ.ـليين الأحياء، وعددهم عشرون، بينهم ثلاث نساء وطفلان، مقابل إطلاق إسرائيـ.ـل سراح ما يقارب ألفي معتقل فلسطينـ.ـي على دفعات.
خطوةٌ وصفتها واشنطن بأنها “نهاية الحـ.ـرب”، فيما رآها مراقبون “وقفًا مؤقتًا لإطلاق النـ.ـار في حـ.ـرب لم تكتمل بعد”.
في المقابل، بدأ الجيش الإسرائيلي انسحابه الجزئي من محاور القطاع الشمالي، تاركًا ما يُعرف بـ”الخط الأصفر”، وهو شريط مراقبة عازل على تخوم مدينة غزة، بينما تحركت جرافات تابعة للأمم المتحدة لإزالة الركام وفتح الممرات الإنسانية.
ومع ذلك، سجلت مصادر ميدانية وقوع اشتباكات محدودة في بعض النقاط، ما يكشف هشاشة الاتفاق وسط تصدّعات الثقة بين الجانبين.
خطة ترامب.. نهاية الحـ.ـرب أم بداية هندسة جديدة للمنطقة؟
يأتي هذا الاتفاق في إطار ما وصفه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بـ”خطة إنهاء الحـ.ـرب في 20 بندًا”، تتضمن مراحل متتابعة تشمل وقف إطلاق النار، تبادل الأسرى، انسحابات تدريجية، فتح المعابر، ثم الشروع في إعادة الإعمار بإشراف دولي.
ترامب أعلن من البيت الأبيض أن “الحـ.ـرب انتهت رسميًا”، في خطاب احتفالي تضمن إشارات واضحة إلى صفقة سياسية أوسع تمتد إلى إعادة رسم موازين المنطقة.
لكن خلف البريق الإعلامي، تتكشف قراءة أكثر تعقيدًا: من جهة، إسرائيل تسعى للخروج من المستنقع الغزّاوي بأقل الخسائر السياسية والعسكرية، بعدما تراجعت شعبيتها الداخلية بسبب طول أمد الحـ.ـرب وتكلفتها الباهظة.. ومن جهة أخرى، حماس ترى في الاتفاق فرصة لتثبيت وجودها كـ”فاعل تفاوضي” لا كـ”تنظيم محاصر”، مستفيدة من ورقة الأسرى ومن التعاطف الإنساني الدولي مع غزة المنكوبة.
الوسطاء، مصر وقطر وتركيا، خرجوا بدورٍ مكرّسٍ في ميزان القوى الإقليمي، إذ يحاول كل طرف تقديم نفسه كضامنٍ للتهدئة وعرّابٍ للحل النهائي، بما يعيد توزيع النفوذ في الشرق الأوسط على إيقاع الصفقة الجديدة.
تحديات الاتفاق.. ما بعد الهدوء
رغم أجواء الاحتفال، لا تزال عقد التنفيذ قائمة: هناك ملف نزع سلاح حماس الذي تصر إسرائيل على جعله أولوية للمرحلة الثانية.. وهناك مطلب الانسحاب الإسرائيلي الكامل الذي تطالب به القاهرة والدوحة كشرط لاستمرار الهدنة.. وأيضا معضلة إعادة الإعمار في ظل دمار واسع وبنية تحتية منهارة.. إضافة إلى التوازن الداخلي الفلسطيني، بين سلطة رام الله التي تشعر بالتهميش، وفصائل غزة التي تعتبر نفسها المنتصر الميداني.
وفي إسرائيل، بدأ اليمين المتطرف يصف الاتفاق بـ”صفقة العار”، مهددًا بإسقاط الحكومة، بينما تتصاعد دعوات لإجراء انتخابات مبكرة قد تعيد خلط الأوراق من جديد.
هدوء فوق الركام
في غزة، عاد بعض المهجرين إلى منازلهم المدمرة في مشهد رمزي لا يخلو من المأساة: مدينة أنهكتها الحـ.ـرب، وشعب يعيش على فتات المساعدات، ووعود بإعادة الإعمار لا تزال رهينة المفاوضات… الناس يحتفلون بالإفراج عن المعتقلين، لكنهم يعرفون أن الطريق إلى السلام أطول من هدنة، وأن “اتفاق غزة” ليس إلا هدنة فوق الركام.
خلاصة المشهد
الاتفاق الراهن ليس إعلان نهاية حـ.ـرب، بل هدنة سياسية بثمن إنساني فادح. إنه محاولة لتجميد الصراع أكثر مما هو حل له، تسعى واشنطن من خلالها إلى تثبيت نفوذها، بينما تتعامل إسرائيل بحذر مع مرحلة ما بعد النار، وتناور حماس لتثبيت موقعها في الخارطة المقبلة.
وبين هذين الطرفين، يقف الفلسطيني البسيط شاهداً على صفقات فوق أنقاض بيته، ينتظر أن يتحول “وقف إطلاق النار” إلى “بداية حياة”، لا إلى استراحة بين حـ.ـربين…
*تحليل سياسي: أحمد عبد ربه
