عبد الرزاق بوتمزار
ح. 100
عشرُ سنوات من التربّص بوظيفةعُموميّة!
حين التقيتُ، ذاتَ مساء بعيد في مُحيط البرلمان، أحدَ رفاق الدّراسة السّابقين خُيّل إلي أنّني لا أرى إلا طيفَ ذلك الشّخص الطيب.. حين توقفَ واستدار، مثلي تماما وفي اللحظة ذاتها، وتعرّفنا بعضَنا، كان أقصى ما يمكن أن يتصوره أحدُنا أن نلتقي هنا والآن دون موعد سابق، بعد عـ10ـشر سنوات كاملة. تعانقنا وجلسنا على أقربَ كرسيينْ مُتجاورَيْن في شارع محمد الخامس. استرجعنا لحظات مُوغلةً، ونحن نتبادل السّؤال عن الصّحة والأهل والأحوال وفعايل الزمانْ.
أن تلتقي صديقا بعد عشر سنوات وتجد أنه لم يتغيّر فيه شيء.. كان هذا انطباعي وأنا أتطلع إلى محمد لْخرص وأستمع إلى كلامه، الذي “تأرْبَطَ” أكثر من السابق. ما عدَا ذلك وعَدا بعض تجاعيد بدأت تتسلل إلى تقاسيم وجهه الصّغير، المنحوت من طيبة وسماحة الوجديّين، كان محمد لا يزال، كما عهدتُه: واضحاً كورق شفّاف، بسيطا، عفويا وطيباً.
حين عرّجنا على واقع الحال، أخبرْته بأنّني التحقتُ، مُؤخّراً، بالعمل في الصحيفة مُراجعاً لغويا. قال، من جهته، إنه بصدد تحضير بعض الوثائق، في أفق الالتحاق بوظيفته هناك في ضواحي مدينته، الشّرقية.. قاطعته، وأنا لا أكاد أصدّق:
-لا تقلْ لي إنك بقيتَ كلَّ هذه المدّة هنا دون عمل؟!
-والله كذلك كان! لم أتوصّل بوثيقة تعييني إلا قبل أيام فقط. منذ الوقت الذي افترقنا في هذا المكان، قبل عـ10ـشر سنوات، وأنا هنا٫ في هذا المكان!
ما استطعتُ تصديقه بسرعة. أن تمضيَ عقدا كاملاً من عمرك وأنت “تُناضلُ” من أجل الحصول على وظيفة!..
-يا إلهي. عشر سنوات؟! لقد تنقلتُ خلالها بين أكثر من عشر مِهن وحِرَف. عشتُ تجاربَ لا يمكن أن تخطر على بال وتجرّعتُ مرارات البطالة، السّافرة حيناً والمُقنعة أحياناً. قاومتُ كبرياء المُتعلم في دواخلي وارتضيتُ لنفسي “مناصبَ” قد لا تُشرّف أصغرَ جامعيّ في البلد. احتملتُ حماقات وتجاوُزات وتناقضات واتّهامات.. قابلتُ أشخاصاً شرفاءَ وآخرين قليلي التّـْرَابي، كلّ همّهم أن يحرُثوا على ظهور غيرهم ويُكدّسوا، من وراء عرقهم، أموالا طائلة. عشتُ لياليَّ في رصيف الحاجة وقاومْتُ زوابع الأزمات واستطعتُ أن أتدبّر حالي، أن أتزوّج وأنجب أبناء.. وتريد أن تقول لي، أنت، إنك بقيتَ طيلة هذه المدّة هنا، تحتجّ كي توظفك الدّولة؟!
-ذلك ما كان بالضّبط، يا صديقي، والله.. ما كانْ غيرْ جْرّي عليّ نْجرّي عليك فهادْ الشّارعْ؛ صِيفْ وشْتوَة.. كمْ هراوة كسرت الضّلوع والرّأس والأطراف. كم مصيبة نجّاني منها الله، وأنا أرى الخطر يُداهم كينونتي ويُهدّد راحة الجسد والبال. في خريف وشتاء، لعبنا هنا، في هذا الشّارع وفي الأزقة المجاورة، لعبة الغمّيضة مع رجال القوات المُساعِدة ومع رجال البوليس، وفي ربيع وصَيف. كانت طريقتَنا الوحيدةَ احتجاجاتٌ مُتواصِلة وكرٌّ وفرّ طيلة فصول وسنوات؛ إلى أن هْداهمْ اللهْ، مؤخّراً فقط، وْشافو مْن حالي..
قال، مُطرقاً، شاردا بذهنه المكدود، عبر تفاصيل كلّ تلك الأيام، الأسابيع والشّهور والسّنوات، التي أمضاها على أرصفة الرّباط، وأمضاها معه كثيرون، على درب إجبار الدّولة على تدبّر وظيفة لهم.
لم أجد كلماتٍ كثيرةً أقولها له بعد الذي سمعتُ. لم ننتبه إلى انصرام الوقت. تبادَلنا رقمَيْ هاتفينا، من جديد وتوادعنا على أمل لقاء قريب.
صعدتُ الحافلة المُتجهة نحو تْمَارة -المدينة وأنا لا أكاد أستوعب الكثير ممّا وقع معي. وضعتُ السّماعتين على أذنيّ وانطلقتْ أصوات الأثير تضبط إيقاعات ما مرّ بي في تلك الساعة التي جمعتني بواحد من “شلة الرّباط”، البعيدةِ ذكراها.
وأمام جهاز التلفزيون أحاط بي عصافير شقيقي، لكنْ كنت لا أكاد أسمع ما يقولون ولا ما يقول الجهاز. كان تفكيري مُنصبّاً على استعادة شريط الأحداث، خُصوصا بعد مُغادَرتي محطة القطار الرّباط -المدينة. منذ عشر سنوات وأنت هنا، تراوغ فراغَ أيامك والليالي وتهرُب هراوات المْخازنية وتحرّشات البوليس، أصنافا وأنواعاً ورُتباً؛ بينما رأيتُ أنا نجوماً في عزّ النّهارات من أجل لقمة العيش، في زمن لا يرحم.. لِمَ كنتُ بكلّ ذلك الغباء وأنا أناور عواصف الزّمانْ “الصّعيبْ”؟ لِمَ سهرتُ الليالي حارساً نومَ الآخرين، مُتحمّلا ضآلة الرّاتب وفقرَ المعاملات؟! كيف سمحتُ لي بأنْ أراقب آلاتٍ خرساء يستعملها الآخرون في تبادُل لغوهم الفارغ كلّ تلك المدة من أجل دراهمَ قليلة جدا ممّا يدخل جوف تلك الأجهزة المُتكلّمة؟ لمَ بعتُ كتبَ المدرسة، غيرَ المُربحة، وخلطتها برائحة الفحم والبصل في أعيادٍ لم تكنْ بقدْر البهجة نفسِه في كلّ الأعوام؟! كيف ارتضيتُ لنفسي أن أجلس أمام حاسوبي العتيق خلف تلك اللوحة بتلك الكلمتين الغبيتين “كاتب عمومي” وأنا أدبّج عُقودا ووثائقَ من أجل دراهمَ تُغطي بعض الاحتياجات المُتزايدة ولا تغطي الكثير؛ مسكوناً بتحسين الوضع وتصحيح واقع الحال فما يزيدُني واقع الحال إلا همّا وغمّاً، إلى درجة أنّي حين ألتفتُ نحو اللوحة صرتُ أقرأ فيها “كاتب هُمومي” بدل “كاتب عُمومي”! بينما أنت هناك لا تفعل، ولا يفعل كثيرون مثلك، غيرَ احتمال حرارة أو بُرودَة الأجواء وضرباتِ هراواتٍ، من حين إلى حين، أمام قبّة البرلمان، المسكينة من الدّاخل كما من الخارج؟! كيف غاب عني أنّ الأمر لا يستدعي كلَّ تلك البلاهة مني حتى أحصل، في الأخير، على العمل الذي مَنّيتُ به النفس دوماً؟..
“كم كنتُ غبيا!”.. ظللتُ أردّدها تلك الليلةَ، إلى أن حضر النوم وأخذني إلى عوالمه.
استيقظتُ عند حدود السّادسة من صباح اليوم المُوالي. غادرتُ البيت الصّامت وصعدتُ الحافلة في اتّجاه محطة الرّباط -المدينة. من هناك ركبتُ أول قطار صادفته نحو عاصمة الاقتصاد. تَحرّشَ النوم بجفنَيّ والقطارُ يُواصِل سيره الغافي نحو “تَمّارة”، قدَري الأزلي الذي اخترتُ هناك أو اختير لي، في عمارة شاهقة، في مكان ما، ذاتَ كازابلانكا…
