عبد الرزاق بوتمزار
ح. 95
حين غَلطـَ المُصحّح!
كان نشرُ هذه اليوميات قد توقفَ حين اختفتْ صفحة “فورُومْ” من خارطة “المساء”. حُكم على “أضاعوني” بأنْ تضيعَ قبل أن يُنشَر منها أقصى ما تمنّيتُ حينذاك: مائة حلقة وحلقة؛ كانت ستُشكّل جزءاً أولَ نموذجياً من هذه اليوميات، في انتظار الجديد، تحت سماء تندُر فيها إطلالات جديدة..
تفرّغتُ، بعد “اختفاء” هذه الصفحة، لتحرير عمودي الأسبوعيّ “على أثير الإذاعة” في الملحق الفني، الذي كان يعدّه الزّميل ناديري كلّ اثنين. إضافة إلى عملي “الرّسمي” في المُراجَعة اللغوية، كنتُ قد “ورّطتُ” نفسي في هذا الالتزام الإضافيّ، بعد أن وافق مُدير النّشر على مادّتي الأولى التي كنتُ قد اقترحتها، ذات مساء، على “وْلد الناسْ”، الذي كان يُعدّ موادّ الملحق. وافق رشيد نيني على الفكرة وعليّ مُحرّراً لأثير صفحتَيْ “إذاعة وتلفزة”؛ فكانت بداية أيام جميلة ذاتَ “مساء”..
أذكر أنّ زاويتي تلك كانت، منذ الأعمدة الأولى، مُزعجة واستطاعت شدّ انتباه قرّاء من عينة خاصّة. وبأسْرَعَ ممّا توقعتُ، بدأتْ تصلني أولى ردود الفعل. كانت ردوداً طيبة من لدُن كثيرين، فيما “لم تُعجب” آخرين ذهبوا، أحياناً، إلى حد اعتباري مُجرَّد”مُنفّذ أنقل ما يُملى عليّ من فوق”! لكنّ اللهَ يشهد والتاريخ أنه ما أملى عليّ أحدٌ يوماً أو نسختُ فكرة أو مُقترَحَ أحد. وكان هذا ما أعطى المقالةَ الأسبوعية مصداقيَتها.
كنتُ، ببساطة، دائمَ الارتباط بأثير الإذاعات، خاصّها وعامّها. تتلقف أذناي ما يقال هنا وما يقال هناك؛ أحرّره وأقترحه على الزّميل المُشرف على الملحق الأسبوعيّ، فلا يلقى غيرَ قبول مدير النشر. حين أتشمّم رائحة برنامج إذاعيّ قد أخرُج منه بمقال يُرضي قناعاتي، كنتُ أسارع إلى الكتابة بأقصى سرعة مُمكنة. نعم؛ فقد كنتُ أشتغل بطريقتي الخاصّة: الأذنان في الاستماع وعلى الأصابع نقلُ ما يقال إلى صفحة أمامي. عليّ أنْ أكتبَ أقصى ما يُمكن من تدخّلات مُشارِكين في البرنامج الإذاعي المعني. ويُستحسَن، طبعاً، أن يكون للبرنامج توجّه فني؛ أدبيّ؛ اجتماعيّ أو حتى سياسي، خُصوصاً إذا حمل جديدا، مُثيرا ولِمَ لا سبقاً..
لم أحظ بعْدُ، حينذاك، بـ”امتياز” امتلاك مُسجِّل، كما صحافيي ومُراسلي صُحفنا ومجلاتنا المُفوَّهين. والحقيقة أنّني ما شعرتُ بحاجة ماسّة إلى شيء من هذا القبيل، خُصوصاً في أيامي الأولى. كنتُ، قبل أن أمتلك حاسوبي الخاصّ، أتأبّط قلما وورقة ولكلِّ مُتحدثٍ في أثيرٍ ما أن يقول ما يُريد، لا مُشكلة بتاتاً في ضبط رؤوس الأقلام التي ستشكّل أساس المقالة. في فترة لاحقة، صارت اللحظةُ فرصة أسبوعيةً لأناملي كي تزداد احتكاكاً بلوحة الجهاز. عليها أن تواكب ما يُقال على الهواء مُباشَرة وتُسعفَني في نقر الخطوط العريضة، التي ستُشكّل منطلقي لتحرير مادّة “مُنقَّحة” قدْرَ المستطاع، في ما بعد، خلال التّحرير النهائي للمادّة. كان ذلك أهمَّ شيء بالنسبة إليّ.
وصارت الهواية تقليداً يُرافق خلواتي في غرفتي الباردة، بعد فترة العمل اليومية. كان عليّ تحمّلُ تبعاتِ الكثير من الجُهد والسّهر و”تبدالْ المُوجة” من أثير إلى أثير كي أنتهيَ إلى ما يُقنع حدسي بتحرير موضوع “مقروء”.. أحياناً، كنتُ أحرّر مادّتين أو ثلاثاً أسبوعيا، قبل أن أختار واحدة منها لكي تُدرَج في عدد الاثنين. وفي ركن قصيّ من هذا “المْشقوفْ” أركنُ كلّ مادّة عرفتْ طريقها إلى “أثير الإذاعة” أو ظلت مُجرَّد مُسودّة في ثلاجة الانتظار أو الاحتياط. بالنسبة إليّ ما من مجال لأنْ يموتَ نصّ كتبتُه يوماً حتى لو لمْ يَلِقْ، مرحليا، لغيرِ الانتظار.
في البال لحظاتٌ كثيرة احتلت مكانَها في الذاكرة؛ أحداثٌ وأشخاص صنعوا حياة مُوازية لمُجرَّد كلمات تُخَطّ على صفحات.. في بدايات تحرير عمودي الأسبوعيّ، جاءني مُواطنٌ بيضاويّ، ذاتَ صباح، حتى مقرّ الجريدة؛ سأل عني بالاسم والصّفة. خرجتُ أستقبله، تسبقني تساؤلاتٌ حول مَن تراه يكون وما يريد. كان الحاجَّ “الملحون” (توفيّ، رحمه الله، سنواتٍ بعد ذلك). قدّم لي نفسه وهو يُلوّح في وجهي بعدد الاثنين الأخير من اليومية. أدركتُ أنّني ارتكبتُ “زبْلة” في حق قرّائي المُفترَضين، خُصوصاً أن الرّجُل راح يصرُخ بما مفاده بأنّني أسأتُ إلى البرنامج الإذاعيّ الذي كتبتُ عنه!..
تقمّصَ دورَ المُهاجِم، وهو يُعيد:
-لقد ارتكبتَ خطأ فظيعا في مقالك هذا!
أُسقِط في يدي ولم أجد جوابا ولا ترَك لي “الملحون” فرصةً لرَدّ. في الأخير، تبسّمَ في وجهي وقال، ضاحكاً، إنّ كلّ ما في الأمر أنّني أخطأتُ (أنا مُصحّح الأخطاء المُفترَض) في عنوان البرنامج الإذاعيّ.
-لقد غلطتَ و”خلطت” عنوانَيْ برنامجين مُختلفين.. كتبتَ مقالك عن أحدهما ووضعتَ اسمَ الآخر عنواناً لمقالك… سْبحانْ اللي ما يْسهى!
كان هذا الخطأَ “الفظيعَ” الذي ارتكبتُ حسب الملحون، خفيفِ الظلّ والرّوح.
كان حدثاً غريبا شكّل بداية صداقة جمعتني، في ما بعدُ، بهذا المُستمِع الاستثنائيّ لمحطاتٍ من أثيرنا الوطني. لم يكن الملحون مُستمعاً يقظاً ونبيهاً فقط، كان صديق الإذاعيين وجُنديّ خفاء يقطع الدّار البيضاء (وغير الدّار البيضاء) جيئة وذهاباً، مُتطوعاً في إطار إحدى المهامّ الإنسانية التي كانت بعض البرامج الإذاعية تُشكّل منطلقها. والحقيقة أنّني سعدتُ كثيرا لوُجود تلك العيّنة من المُتتبّعين، مُستمعين وقرّاءً، المسكونين بحبّ “الكمال” في ما يُنشَر على صفحات الصحف أو يقال على أثير الإذاعات. كانت ملحوظة المرحوم الملحون مُفيدة لي كثيراً في بداية تكريس اسمي كأحد المُوقعين في “صحيفة المغاربة الأولى” ذات مساء..
تحيةً لروحك النّقية، يا صديقي الذي كان، ولترقدْ روحك في سلام.
