عبد الرزاق بوتمزار
ح. 93
الاتّجاه المُعاكس.. منطق جحا
حين وجدْنا، المُخرجة الفنية لإصدارات الدّار وأنا، فرصة لتطوير قدُراتنا في مجال المعلوميات والأنترنت، قلنا لنا في نشوة: وأخيراً سنلتحق بالرّكب ونُطوّر قدراتنا ومستوى تنافسية الدّار! ساعدَنا على التّفاؤل أكثرَ أنْ كانت المدرسة قريبة من الدّار؛ لكنْ كان لمُدير الدّار منطقٌ آخَر، وما أدراك ما منطق مُدير من طينة جْحا!
كان التّكوين مُتاحاً ضمن برنامج مُشترَك بين الدّولة والقطاع الخاصّ، في إطار “تشجيع المُقاوَلات الوطنية على تجديد تكوين أفراد طاقمها ورفع مستوى أدائهم وإفساح المجال لهم من أجل التطور والانفتاح على آفاق أخرى”… إلى آخر المعزوفة؛ لكنْ مهلاً، مهلاً.. وما دخلُ جْحا في هذه التنظيرات الطوباوية؟ لِمَ لا يختصر عليك وعلى المُخرجة الفنية الطريق!؟
ولَمْ تتأخّر طرفة إضافية من المُدير غريب الأطوار في الإعلان عن نفسها:
-عليكما أن تُسجّلا اسميكما في مدرسة الأنوار في حيّ أكدال إنْ أنتما أردتما الاستفادة من التكوين!
قالها جحا وصَدّقَها. ورغم أنّ هناك مدرسة أقربَ كثيراً إلى الدّار ويمكننا الذهاب إليها مشيا حتى بعد فترة العمل الصّباحية والعودة حين تبدأ فترة العمل المسائية، فقد رأى جْحا أنّ علينا التوجّه إلى حيّ أكدال، عبر حافلة أو سيارة أجرة والعودة، بالطريقة ذاتها، لاستئناف العمل في فترته المسائية!
لا تُحاولْ أن تقنعه بأنّ منطقه أعوج. لن يسمعك جْحا ولا سيُعيرك وكلامك اعتباراً. قال مدرسة حيّ أكدال، فلا بدّ أن تكون مدرسة أكدال! ما همّه أنكما ستضطرّان إلى تحمّل مَصاريفِ تنقلٍ إضافية وإضاعة كثير من الوقت بين دخّان الحافلات وسيارات الأجرة؟.. وحتى إن وجدتما هذه السّيارات والحافلات مُتيسّرة فماذا ستقولان لميزانيتيكما في نهاية كلّ شهر؟ هل يستطيع الأجر الهزيل الذي تتقاضيان، نقداً، بعد كلّ ثلاثين يوماً أن يتحمّل ثمنَ رحلات يومية من المُحيط حتى أكدال ذهاباً وإياباً، وفوق ذلك ثمن وجبة، ولو “خفيفة”، ضرورية لإسكات جوع الأمعاء في فترة التكوين المُفترَض؟
أجهزَ تفكيرُ جْحا العبقري في أن يربح وتربح المُؤسَّسة التي ارتأى أن يرسلنا إليها على حظوظ تحقّقِ رغبتنا في ذلك التكوين. عرف جْحا كيف يفتري على تلك البدعة المُسمّاة إعادة تكوين.
-والله لن أتسجّل في مدرسته تلك حتى لو اضطررتُ إلى توديعه وتوديع داره المُقرفة!..
ردّدتْها للمرّة الألف، وهي تجول ببصرها في المكان المُقرف.
لم تكن تنتظر ردّي. تعرف أنّني أكثر عناداً منها في مثل هذه الأمور. رفَضْنا التكوين، وبقي حال الدّار وأهلها على ما هو عليه.. وهل تتطورُ دارُ نشرٍ في مكان ما في العالم إنْ كان مُدير الدّار لا يعرف حتى كيف يُشغّل جهازا ولا كيف يوقف تشغيله بطريقة أخرى غير نزع خيط الكهرباء عنه؟!
وصارت الطرفة الجديدة حديثَ مُستخدَمي الدّار لأيام. ما دخلُ أبي جهل بأنترنت أو تكوينٍ أو إعادة تكوين، في مدرسة الأنوار أو بحر الظلمات؟! هلْ وصلتُ إلى ما أنا فيه بتكوين أو بعنكبوت أو نملة حتى!؟.. هكذا كان، ربّما، يُردّد، مُنعَّماً في شقاوته، أخو الجَهالة! قد لا نَكونُ، في نهاية المطاف، من منطلق نظرته إلى الأمور، غيرَ بائسَيْن أضاعا عليه إمكانيةَ ربحٍ إضافيةً من صفقة مُتابَعة ذلك التّكوين في المدرسة التي اختارها لنا. لمْ نستبعد تلك الفرضية من لائحة تخميناتنا حول الأسباب التي جعلتْ جْحا يُصرّ على أن نتسجّل في مدرسة أكدال بالتحديد. نعرف أنْ قد اجتمع فيه طمعُ أشعبَ وغيرِ أشعب.
كان الجميع يعرفون أنّني قد أنسحب، في أية لحظة، من الدّار وأتخلص من حماقات مُديرها. لقد اقتنعتُ بسرعة بأنْ لا أفقَ لي فيها؛ لذلك حزمتُ حقائبَ أحلامي وتطلعاتي وركنتُها في مكان آمن في رفوف الذاكرة ورحتُ أستعدّ للرّحيل في أيّ يوم. ما عزّت علي إلا رفقة المُستخدَمين والألفة الجميلة التي تكونت بيننا؛ لكنْ ماذا يستطيع أحدُنا أن يفعل كي يتفادى لحظة الفراق الصّعبة بوُجود مُدير من نوعية جْحا المُنقرضة؟
لم يكنْ لديّ، في واقع الأمر، عرضٌ ولا خيارٌ آخرُ بعد مغادرة الدّار. قرّرتُ المغادرة فقط للهروب من التّفاهات التي كانت تجري بين جُدران ذلك المكان المحسوب، ظلماً، على فضاءاتصناعة الثقافة في بلد تقود بعضَ مُؤسّساتِها عقولٌ معطوبة.
اِرحلْ؛ إلى أيّ مكان ارحل؛ إلى أيّ مهنة تُوفّر لك اللقمة، أيّها الفتى الحالمُ بمُؤسَّسات طوباوية ليست إلا في خيالك، الجامح على الدّوام. اِرحل بأفكارك المجُنونة المُتطلّعة؛ فهذي ضيعاتُ ديناصوراتٍ تجد مُتعتَها الخاصّة في مُراكَمة الزّلاّت وتجفيف جميع المَنابعِ المُحتمَلة لسعادة الآخَرين. اِرحلْ، غيرَ آسِف إلا على هؤلاء المساكين، الذين سيضطرّ بعضُهم إلى البقاء، مُكرَهين، بين فكّيْ هذا القرش، مصّاص الدّماء.
