عبد الرزاق بوتمزار
ح. 92
أَعطِني كتابَك “فابُورْ”..
بعد أحاديثَ كثيرة ومُتشعّبة، عرّج الأستاذ على الموضوع الذي لم أكن أريد أن يخوض فيه: الأرباح المُتوقَّعة من مشروع كِتابه الذي كنّا نُعدّ للنشر. سألني أيَّ صنف من الناس هو مُديري. ما عاد أمامي مكانٌ للهروب. أوقف السّيارة، بعد إشارة مني إلى أنّني قد وصلتُ إلى وجهتي.
-طيبْ، سأكون واضحاً معك، أستاذ..
قلتُ له، وأنا أُنزِل زجاج النافذة. تسلّلتْ نسماتُ الأطلسي إلى الداخل وأنعشت حلقي. تابعتُ، قبل أن أغادرَ عربته:
-لا أريدك أن تنتظر أيَّ نوع من الرّبح، الماديّ على الخصوص، مهما تسمع منه من وعود.. لا أذكرُ أنّ أحدَهم نشرَ كتاباً في الدّار وخرج منها بأوراق مالية، عدَا أوراق نُسَخ معدودات من مطبوعه.. كلّ ما ستربح، في الأخير، هذا التعبُ الجميلُ الذي تكبّدتَ من أجل كتابك!
ودّعتُه، مُتعجلا التخلّص من نظراته الحائرة وكلماته المُتلعثمة المُتسائلة.
–بصراحة، لا أفهم كثيرا في المعامَلات المالية للدّار؛ لكني أستطيع أن أؤكد لك أنه لا يجب أن تضع ربحا ماديا ضمن انتظاراتك.
لم أكن أستطيع إلا أن أكون صريحاً مع الأستاذ وهو الذي علّمَني، يوماً، حرْفاً. أحَبّ صراحتي وزاد إصرارا، بعد حديثنا ذاك، على مُرافَقتي كلّ مساء في رحلة العودة إلى حيّ الفتح.
بسبب ما وقع من جْحا مع الأستاذ فكرتُ، بدوري، في أنّ أفضَلَ حلّ، ربّما، لمدير من شاكلة جْحا هو أن يُغافله المرء بضربة قوية ترسله إلى الإسفلت من علو ثلاثة طوابق وغيرِ قليل من كرامة مهدورة.
حين انتهى جحا إلى “الهْريفْ” على أستاذي، تخيلتُ له جميعَ النهايات السّيئة المُمكنة، بما في ذلك أن أضربه، فجأةً، ضربة مُحكَمة حين يكون واقفاً أمام النافذة مُباشَرة، على أساس ألا “يجدوا منه الكثيرَ” ممّا يمكن جمعُه وقد قُذف من طابق ثالث، كما قال أحمد ذاتَ بَوح.
لم تكن حماقات المدير تعرف ضفافا أو تقف عند حد. ذاتَ عشية، دعوتُ أحمد، إلى منزل شقيقي؛ كانت مناسبةً عائلية. حين اتصلتُ به في الدّار كي أستحثه على اللحاق بي، كان المدير جْحا هناك. أخبرني أحمد بأنّ جحا عرف بالموضوع ويود ّالحضور أيضاً! فليكنْ، قلتُ له، ما دام قد دعا نفسَه بنفسه! صرتُ داعيا شخصين إذن؛ لا بأس.
عندما أخبرتُ شقيقي بالأمر ما عاد يشُكّ في كلّ ما كان يصله حول جْحا، بين بوح وآخر: مُديرُنا جُحا حقيقيّ في زمان غير حقيقيّ ولا المكان.
بدءاً بطريقته في غسل يديه، بدَا جليا لجميع أفراد العائلة أنّ هناك شخصا استثنائيا يجلس معهم إلى المائدة في تلك الليلة.. (أقدّم لكم جْحا -المدير أو المدير -جْحا، كما تشاؤون). أمّا اللقمةُ التابعةُ اللقمةَ فحدّثْ بدَلَ التغامُز!.. هل تظن أنّ لدى هذا “الضّيف” الاستثنائيّ وقتاً لكلامكم أو الهمس؟!
-أخُويَا بازّ ليكْ على مُدير عندكْ.. يْحسْن عونكُم!..
كانتْ هذه أولَ جملة سمعتُ، بعد أن غادر ضُيوف تلك الأمسية وبقيتُ مع أفراد العائلة.
في صباح اليوم الموالي، سارت الهمساتُ بذكر ما وقع. ربّما وجد أحمد في سرد الواقعة على المُستخدَمين بعض العزاء في فرصته التي أضاع في إنهاء حياة جْحا.. وتفجّرت الضّحكاتُ في طابق ثالث لعمارة ما قرب المحيط. وعلى إيقاعات طقوس إعداد القهوة الاستثنائية التي تنتظره بعد لحظات فوق مكتبه، بدأتْ حلقة أخرى في حكاية غير منشورة، والدّار، ناشرةُ الثقافة، يرأسها مُدير مصابٌ بعطب في الدّماغ..
بتوالي الأيام وتناسُل تّصرّفات جحا وسلوكاته الخرقاء، تعرّتْ عيوبُ الدّار ومُديرها. هلْ يجبُ أن يتوفر فيك لؤم الدّنيا وطمع أشْعَبَ وكلِّ قبيلته كي تصير ناشراً للثقافة في وطنٍ يتحدّثون فيه كثيراً عن ضعف القراءة دون أن يعرفوا الأسباب والمُسبّبين!؟ لكثرة نوادره، تصير أيُّ تهمة أو سبّة أو نقيصة يُلصقها أحد المُستخدَمين بجْحا حقيقة يُصدّقها الجميع، ولو أضيف إليها الكثير من التّوابل في الطريق.
كانت واقعة نصْب جْحا الثقافة على أستاذي ذاتَ مُرّاكش النقطةَ التي أفاضت كأس الصّبر وجعلتني أبدأ في حسم قراري بترك الدّار إلى غير رجعة..
ترَك، المسكين، زوجتَه وأبناءه وضحّى براحته في عطلته الصّيفية من أجل إعطاء مكتبات البلد عنواناً إضافيا؛ لولا أنّ أقدارَه الحزينة وضعته بين أيدي نصّاب باسم الثقافة. وما حزّ في نفسي أكثرَ أنّني بذلتُ جهدا مُضاعَفاً من أجل أن يرى كتابه حول اكتشاف النفط في البلاد طريقه إلى النّشر، في بلد يتربّص فيه بهُواة النّشر كثيرُ أفاع وعقاربَ ومصّاصي دماء.
لم تكن الأنترنت قد انتشرتْ بعدُ بما يكفي في بدايات الألفية الثالثة، وحتى لو كانت جميع المُقاوَلات قد أدخلتها إلى أنظمتهما وأجهزتهما فلا شكّ في أنّ أبا جهلٍ سيكون واحداً من ضمن آخِرِ من قد يُفكّرون في جدوى ربط داره بالشبكة العالمية.
لحسن الحظ أنْ كانت لدى حسن، شقيقي “موسوعة” من الاثنتين الأشهر في تلك الحقبة. توليتُ مهمّة البحث عن موضوع يصلح لتعويض النقص في المادّة التي تتناول موضوع النفط. ترْجَمنا قسما كبيراً من مقالات في الموسوعة تتناول الموضوع وكيّفناه مع الحالة المغربية.. جْحا؟ لم يكنْ ليفهم شيئا ممّا يجري. يكفينا حضورُه المُسلّي في المكان كي نجد حافز إضافيا للاشتغال! كنا، في الحقيقة، نقصد إغاظته ونحن نتنقل بين أقسام الدّار وأجهزتها، بحثا عن إتمام مرحلة من سلسلة مراحل إعداد الإصدار المُرتقب دون إيلائه كبيرَ اهتمام. في ما يخصّني، كان يحلو لي أن أعذّبه وأنا أكتفي، في غالب الأحيان، بالنظر إليه دون جواب كلما أرسل أحد تعليقاته المُسَلّية.
في النهاية، حصل كلٌّ منا على ما يريد من العمل، إلا الأستاذ -المُؤلف. دخل الدّار بمخطوط عن الجغرافيا وغادرها بكتاب حول اكتشاف النفط في إحدى نقط تلك الجُغرافيا. بالنسبة إلى الشّريف وإليّ، كان الشّكل الذي سيظهر عليه المطبوع وجودة مادّته ما يهمّ في كلّ ذلك التعب الجميل. سيكفينا “ربحاً” أن نُطالع اسميْنا مقرونَيْن بمُنتَج جيّد في طبعة لائقة. جحا؟ يكفيه جنيُ أرباح من العملية، في نهاية المطاف، ولو بالضّحك على ذقن مُؤلف إضافيّ؛ فيمَ ستُفيدُه ثقافة أو تثقيف!؟
إذا كان بعض الناس يجدون منتهى مُتعتهم في إتقان العمل والتفاني في الحرص على ابتغاء درجة الكمال في إنجازه، فإنّ لعاب آخرين يسيلُ مُتعةً من نوع آخر وهم يعُدّون الأرباح، وليفزْ هؤلاء المُغفَّلون المساكين بما تبقى.. بالثقافة.
