عبد الرزاق بوتمزار
ح. 91
حينَ راوَدتْنا أفكارٌ قاتِلة!
لم يتركْ جحا لأحمد خيارات عديدة، في الواقع. بمَكره الفائض، ورّطه في غمار هذه الرّحلة الطويلة من أقصى الجنوب حتى العاصمة. هل يستطيع جامعيّ مُعطـَّل أن يرفض ركوب مُغامَرة مثل هذه؟ لا، لن يدعه التطلّع الدّائمُ إلى نصف فرصة قد تلوحُ لخرّيج في أيّ مُنعرَج. سيستحثّه الحلمُ بغد أفضلَ على المُضيّ في التّجربة. سترسم له نظريات السّياسيين والحقوقيين، عبر الأساتذة في محفوظات المُدرَّجات، خطواته نحو سوق الشّغل؛ وما أدراك ما سوقُ الشّغل في مملكة يستطيع فيها شخصٌ من طينة جحا أن يكون مُديراً!
مثلَنا، سيستسلم أحمد لقدَر أحمق الخُطى. سيتخلص من ثوب المُتعلم فيه ويرتدي لبوسَ الجهالة في حضرة جحا، صاحبِ الدّار. ولا بأسَ، بين فينة وأخرى، من ردّة يصرُخُها المُتعلمُ فيه في وجه الجهالة: تَمرّدْ، بين حين وحين، كي تبقى قاب قوسين أو أدنى من هامشِ كرامة..
كان أجملُ ما وقع لأحمد مع مُديره ما فكّرَ فيه يوما إثر خلاف عميق بينهما حول مشكل في التّوزيع. حكى لي القصّة، ذاتَ بوح في إحدى ليالي العاصمة المُتشابهة، ونحن نتسامر أمام جهاز التلفزيون في مكتب جحا.
-كان يقف أمام النافذة حين وقع بيننا الشّنآن. كان يَصرُخ، كعادته، رغم أنه لم يكنْ مُحقا على طول الخط. فكّرتُ في طريقة واحدة لكي أُنهيَ ذلك الموقف: أنْ أرفع رجلي وأوجّهَ له ضربة يجدونه بعدها جثة هامدة في الشّارع الإسفلتيّ الصّلب، خلف العمارة!
قال لي أحمدُ بنبرة جنوبية جادّة؛ قبل أن يردف:
-صدّقني، والله لقد كنتُ على وشك تنفيذ ما فكرتُ فيه، لولا أني لعنتُ الشّيطانَ في آخر لحظة.
ما لم يكنْ المُدير يعرف، ولا نحن في البداية، أنّ أحمد يحمل حزاماً بلون ما في رياضة الكاراتي. لا شكّ في أنّ ما تبقّى له من روح رياضية هيّ ما دفعه إلى التراجُع، في الأخير، عن تنفيذ فكرته المُجرمة.
بعد ذلك، وكلما اندلع شنآنٌ جديد بينهما كان أحمد يبوح، متحسّرا:
-أعرف أنّني لن أجدَ، أبداً، أفضلَ من وقفته المثالية أمام النافذة في ذلك الصّباح البعيد.. كان عليَ أن أنفّذ فكرتي في الحال… كثيرا ما أفكّر في توجيه هذه الضّربة له، لكنْ أريدها القاضية! لقد أضعتُ الفرصةَ المثالية في ذلك اليوم. لا أريد أن أُغامر وأوجّه له ضربة يعيش بعدها! لو كنتُ ضربتُه يومذاك لانتهى جثة على الإسفلت وخلـّصتُ العالم من روحه الخبيثة. واللهِ لو سنحت لي فرصة أخرى ما رحمته!..
احتجتُ وقتا طويلا كي أقتنع، بدوري، بأنّ التّفكير في بعض الخطوات القاتلة قد لا يقتصر، بالضرورة، على أحمد.. جاء الدّار، ذاتَ صباح، أحدُ أساتذة جامعة القاضي عياض، يتأبّط مخطوطا أعَدّه للنشر. حين فتحوا له الباب ودخل، تسبقه تحيته الصّباحية، بصوته القويّ ولكنته المُميّزة، أيقنتُ فورا أنه هو. أستطيع أن أُميّزَه من صوته فقط ولو كنتُ في مكان لا يسمح لي برؤيته. قمتُ على الفور وألقيتُ عليه التّحية. لم يتعرّفْني. ذكَرتُ له أنّني كنت أحد طلبته في آداب مراكش، فما كان منه إلا أنْ شدّ على يدي بحرارة أكثرَ وهو يُهنّئني. قال، بفرَح ظاهر:
-أحسنتَ صنعاً بأنْ طرقتَ باب هذا الميدان؛ أنا فخور جدّاً بأن يصل أحدُ تلاميذي إلى ما وصلتَ إليه.
شكرته، وأنا أخنق صرخة المتعلم في أعماقي “ما كنتَ لتشُدّ على يدي بكلّ هذه الحرارة مُهنّئاً إياي على حسن الاختيار لو عرفتَ ما قد عرفتُ من واقع الحال!”..
حضر الأستاذ بناء على موعد مع جحا؛ لكنّ الأخير تأخّر في ذلك اليوم، فكان بيننا حوار جانبيّ أفهمته خلاله أنه كان يُدرّسنا مادّة شفهية:
-لو كانت مادّتك كتابية كنتَ، ربّما، احتفظتَ بصورتي في ذاكرتك.
قلتُ له، ونحن نسترجع بعض المواقف والأحداث من تلك الحقبة في كلية الآداب.
وصل جحا. دلف إلى المكتب وهو يَرمُقني بنظرة خاصّة، قبل أن يدعو الأستاذ إلى مُرافَقته. أغلقا دونهما باب المكتب؛ ليبدأ شوط آخرُ في لعبة صارتْ مكشوفة لنا، من المُراوَغات والوُعود بأرباح لن تأتيَ أبداً، في نهاية المطاف! أشفقتُ، صامتاً، على حال الأستاذ وهو بين يديْ المُدير جحا.
كان لدى الأستاذ مشروعُ كِتاب حول جغرافيا بلداننا الإسلامية. “طرقتَ الباب الخطأ”؛ كنتُ أقول لنفسي وأنا أنظر إلى عينَي الأستاذ كلما التقينا في أحد أروقة الدّار. صار يتردّد علينا كثيرا، بعد ذلك. سينشر كتابه، إذن، في الدّار، دار جْحا النّاشرين.
عرفتُ منه أنه يقطن بشقة في حي الفتح، قريباً من مسكن شقيقي، حيث كنتُ أمضي لياليَ تلك. حين يأتي في زيارة مسائية إلى الدّار، كان يُصرّ على أن يُوصلَني بسيارته بعد نهاية نوبة عملي. لم أكن أجد عذرا معقولا لرفض دعوته، إلى أن كان، في الطريق ذاتَ مساء، الكلام غيرُ المباح..
