عبد الرزاق بوتمزار
ح. 79
الدّارُ والنّشر..
عندما بدأتُ تدريبي في دار النّشر كان كلّ همّي أن أتابع عن كثب المراحل التي يمُرّ منها المطبوع قبل أن يصل إلى القارئ، في صيغته النّهائية.
لأجل الإلمام بخبايا صناعة الكتاب وتفاصيلها كانت دارٌ للنشر المكانَ المثاليّ لتطوير مَعارفي واختبار المَدارك النّظرية التي تلقيتُ خلال سنتَي التكوين، وأيضاً لإنجاز بحث أو تقرير من النوع الذي كنتُ مُطالبا بتحريره بعد إنهائي فترة التدريب.
لم يكنْ في الدّار كثير من المُستخدَمين. حوالي عشرة أُجَراء أو أقلّ كانوا كافِين لشخصٍ درس تخصّصا بعيداًعن الطباعة والنّشر في إحدى جامعات أوربا لكي يُؤسّس دارَ نشرٍ ويُمثّل دورَ “الناشر”! أصدر، في البداية، صحيفة أسبوعية “تطبع مُؤقتاً مرّتين في الشّهر”، قبل أن “يقلب اللعب” ويدخل غمار صناعة الكتاب..
راقنتان أو ثلاث ومُراجعان لغويان (مُصحّحان) وتقنيتان، ثم شخص مُكلّف بمُتابَعة أمور التّوزيع والمرجوعات، إضافة إلى أجير آخَر مكلف بمهامّ مُتعدّددة، خُصوصا خارج الدّار.. كانوا كلَّ ما احتاج “بوشْكارة” كي يدخل عالَم صناعة الكتاب ويُساهم في ترويج الثقافة المغربية، المسكينة بالمُناسَبة.
استقبلني المُستخدَمون ببعض التوجّس. رغم أنّي لم أقصد الدّار إلا من أجل تدريب أجبرتْنا عليه رئاسة الشّعبة وأعودَ من حيث أتيت، لاحظتُ أنّ الجميع يتعاملون معي باحتياط، خُصوصاً التقنية المسؤولة عن إعداد “نماذج” (ماكيت) الكتب. إنسانة تُظهر عدوانية غيرَ مفهومة ولا مُبرَّرة. لا تبتسم أبداً، ولا يمكن أن تدعك تقترب منها أثناءَ عملها أو تُفيدَك بشيء /أو في شيء. والحال هذه، كثيراً ما ساءلتُني، خُصوصاً في بداية شهرَي التّدريب: كيف يُمكنُني أن أصل ولو إلى معلومة واحدة في أجواءَ مثل هذه؟!
ولأنّني شخص مزاجيّ، بدوري، فقد حافظتُ في تعامُلي مع تلك “العقرب”، كما كان يُلقبها زملاؤها، على مسافة معقولة. في المقابل، كان بقية أفراد الطاقم لطفاءَ في تعاملهم معي، خصوصا بعد أن تعوّدوا على حضوري، بمن فيهم زوجُها، الذي كان مُكلّفاً بالمُعامَلات مع المُوزِّعين والباعة في مكتبات العاصمة وأكشاكها. كان من حُسن حظي أنْ كانت مُساعِدة تلك التقنية المُتعجرفة في غاية اللطف وأبدتْ، منذ اليوم الأول لحلولي بينهم، استعدادا لمدّ يد العون وتقديم كافة الشّروح والإجابات عن أسئلتي الكثيرة. كانت تستغلّ اللحظات التي تبتعد فيها العقرب وتُعطيني معلومات دقيقة حول سير العمل في الدّار. وكنتُ أحرص على تدوين إجاباتها في “مُذكّرة” صغيرة ظلتْ تُلازمُني طيلة الفترة التي قضيتُ مُتدرّباً في دار نشر لم يجد صاحبُها مقرّا لها أفضل من شُقّة في عمارة سكنية!..
لم تكنْ للدّار مطبعتُها الخاصّة؛ بل تتعامل مع مطبعةٍ في الدّار البيضاء. كان عملُ “الدّار”، كما يحلو للمُستخدَمين أن يُسمّوها مُتندّرين، يقتصر على رقنِ الموادّ المُوجَّهة للنشر وتنقييحها، ثم تركيبها في النّماذج المُهيَّأة سلفاً، طبعِها في “طبقة” (كالْكْ) حسب النموذج المطلوب، ثمّ أخذ الطبقة إلى المطبعة، هناك في العاصمة الاقتصادية للبلاد. ومن هناك، تتولّى إحدى الشّركتين “الرّائدتين” في المجال توزيعَ الكتاب على مكتبات وأكشاك المملكة السّعيدة، غيرِ القارئة، مع الأسف..
