عبد الرزاق بوتمزار
ح. 49
تاريخْ وجغرافْيا..
عبد الله.. صديقٌ من طينة أخرى. بحضوره، تتداخل جميع المعطيات والوقائع لتؤلّف اللحظة! عليك أن تعرف كيف تضع في الحسبان، في أيّ وقت، أنّ مُنتهى الجدّ قد ينقلب، فجأةً، إلى لوحة ضاحكة، إلى نقيضِ ما ذكرْنا عن الجِدّ. ولكي يكتمل المشهدُ ضروريّ أن يكون إسماعيل في الطرف الآخر لحكاياتهما، التي لا تنتهي ومَقالبهما المُضحكة التي يصعب أن يُفلت منها المرء.
إذا قدِمتَ إلى مجلسٍ لهما ووجدتهما في حديث مع شخص غريب فاعلم أنهما قد تهكّمَا على المسكين، بلا شكّ، أو سيفعلان، إنْ عاجلا أو آجلا. أمّا إذا رأيتَهما يُحيطان بإحدى الفتيات -أفضل ضحاياهما- فمن الأفضل أن تكتفيَ بالاستماع إلى ما يجري وتكون مستعدا لمتابعة مشهد مضحك يُجسّدان وضحيتهما التي قادها إليهما قدَرها المسكين.
عبد الله وإسماعيل كانا يُشكّلان لوحدهما عصابة قائمةَ الذات، ينتقلان من ضحية إلى أخرى، من مقلب إلى آخر. يرسمان الابتسامة في زمن ينصرم على وقع الفراغ والانتظار وضبابٍ يلوح في الأفق كثيفاً مثل يأسنا، لذيذاً مثل رذاذ الصّباحات الغائمة على شواطئ الأمل المفتوحة، رغم كلّ اليأس المحيط، على جميلِ الاحتمالات.
ما كان يربطني بالاثنين، إلى جانب صداقة قديمة، بقايا تعاطف مع حزب “عتيد” كانت الأسماء التي رشّحها لدخول مُغامَرة الانتخابات البرلمانية في نهاية التّسعينيات تحلم، ومعها كنّا نحلم، بتحقيق تغيير في المُمارَسة السّياسية في البلاد؛ بترك بصمة خاصّة في مسلسل الانتقال الديمقراطيّ، الذي كانت تباشيره تبدو آتية نحو البلاد بخطى متساقلة.
من حسنات زمننا أننا (أو قلْ معظمَنا) نشأنا على مبادئَ وقناعاتٍ راسخة يصعب التفريط فيها بأيّ ثمن. صحيحٌ أننا لم ننتمِ، ثلاثتُنا، إلى مُؤسَّسة سياسية أو إلى منظمة معينة، إلا أننا شاركنا، دون مقابلٍ أو حتى انتظاره، في الحركية التي كانت تعتمل داخل المشهد السياسي.
ورغم كلّ الخيبات التي جنيْنا من تضامُننا اللامشروط مع الحزب المشار إليه، كانت الأيام التي أمضينا ونحن نتطلع إلى تغيير مُحتمَل لم تتّضح ملامحُه قطّ، جميلةً وحالمة. احتفظنا لتلك المرحلة البعيدة بمنزلة خاصّة في تجاربنا الحياتية.
ولعلّ أجملَ ما وقع لعبد الله أنّ الحظ أسعفه، في النهاية، في العبور الضّفة الشّمالية، إلى نقطة أخرى من الجغرافيا، ليصنع هناك تاريخه الخاصّ!
لقد قاده قدَره إلى أن يعيش تجسيدا حيّا لثنائية تاريخ -جغرافيا، الشّعبة التي تابَع فيها سنواته الأربع في القاضي عياض؛ وإلا لستُ أدري ما كان سيكون مصيره لو بقيّ معنا في هذه… الجغرافيا التي توقّف فيها التاريخ!…
