عبد الرزاق بوتمزار
ح. 48
بدايةُ المتاهة..
يومٌ طويل قائظ وفرَاغ.. ساعاتٌ مديدة يضبط وتيرةَ انصرامها غولُ الخَواء المُتربّصُ. حتى المكان الذي كنّا نقضي فيه صباحاتنا ومساءاتنا صار يُوحي بتسَيّد اللامعنى على لحظاتنا الثقيلة! يعقب هذا اليومَ الطويلَ والقائظ يومٌ آخرُ طويلٌ وقائظ، يُشبه سابقه في كلّ تفاصيل الرّوتين القائلة. يلي اليومين ثالثٌ فرابعٌ.. تنقضي الأسابيع والشّهور بطيئة، ودوماً، فارغة.
لا أملَ كان يلوح في الأفق. لولا بعضِ هوايات نشغَل بها أنفسنا ولولا مُغامَرات نركب مراكبَها -دون أن نكون بالضّرورة مُزوَّدين بكلّ وسائل الإفلات من عواقبها- لكانت نهاياتُنا، ربّما، غيرَ سعيدة ولَمَا استطعنا أن نقطع المشوار الطويلَ بين لهيب العطالة ونحن في كامل قوانا، العقلية على الخصوص.
لم يكن يكسر الإيقاعاتِ الرّتيبةَ لأيامنا سوى إعلان، هنا أو هناك، عن بعض مُبارَيات التوظيف، على قِلَّتِها وتباعُد فترات تنظيمها، دون أن نُخرِج من بالنا، طبعاً، أنّ أمر نتائج معظم مُبارَيات التوظيف أو التشغيل محسوم مسبقاً، بنسبة (مئوية) كبيرة، لصالح صنفٍ آخرَ، من المُجازين أو غير المُجازين، محظوظٍ في بلادٍ لا يُحالف فيها الحظُّ كثيرين.
عبد الله كان واحداً من الطلبة الذين نالوا شهادة “العجازة” في الموسم نفسِه الذي حزتُ فيه عجازتي. رفقته، عشتُ أيام َالانتظار والتطلّع والتمنّي. كلَّ مساء كنّا نلتقي تحت أشجار الواحة لتزجة وقت كان لدينا منه فائضٌ كبير. اتفقنا، يوماً، على محاولة تَصَيّد فرصة عمل في العاصمة. تسلّحْنا برجاء أن نجد بين بناياتها ومؤسّساتها فرصة بَدا لنا إيجادُها في مُرّاكش ضرباً من ضروب السّراب! لحِق بي إلى هناك. كنتُ أمضي عُطلة مفتوحة في موسم الصّيف لدى شقيقي حسن في العاصمة. ولأنّ الأخيرَ كان في رحلة عمل خارج البلاد فقد اتّفقتُ مع عبد الله على أن يَلحَق بي هناك لنخوض معا تجربة البحث عن… عمل!
في صباح اليوم التالي، ملأنا محفظتينا بالكثير من النّسخ المُطابقة لشهادتَينا الجامعيتين وصعدنا الحافلة الرّابطة بين حيّ الفتح ومركز المدينة. طفنا بين مقرّات أعدادٍ لا تُحصى من الوزارات. ما أن نغادر مكتب الضّبط في إحداها حتى يتراءى لنا بابُ أخرى. نتبادل نظرة سريعة وكلمات مُقتضَبة، ثمّ نفتح محفظتينا ونجلس في مكان ظليل. نختار الوثائق اللازمة لترْك ملفّ طلب العمل وندلف إلى البناية.
كنّا قد كتبنا طلباتِ عملٍ لا تُحصى وحشرْناها بين أوراقنا استعداداً لمعركة البحث عن شُغل. وعندما نُواجه بوابةَ وزارة من وزارات الرّباط لم نكن قد خططنا لدفع طلب عمل لديها نُخْرج أوراقنا ونكتب، على عجل، طلبَيْ عملٍ إضافيّيْن.
وبطبيعة الحال، فقد ذهب كلّ تعبنا أدراجَ الرّياح والنّسيان في مكاتبِ المُؤسّسات التي طفنا عليها يومذاك. وأدراجَ الرياح ذهبتْ عشراتُ النّسخ من شهادتينا وشهادات أخرى كثيرة ومُضحِكة كانوا يطلبون منّا إرفاقها بطلباتِ عملٍ اتّضح لنا، في ما بعد، أنْ لا أحد في إحدى تلك المصالح والأقسام قد قرأها أو ألقى عليها مُجرَّد نظرة.
